وعن الزبير بن العوّام رضي الله عنه قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ﴾ إلخ.
قلت : أي رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؛ أي : الذنوب المخصوصة بنا سوى المخاصمات قال :"نعم ليكتررن عليكم حتى تؤدوا إلى كل ذي حق حقه".
قال الزبير :
١٠٦
إن الأمر إذاً الشديد.
وفي الحديث :"لا تزال الخصومة بين الناس حتى تخاصم الروح الجسد، فيقول الجسد : إنما كنت بمنزلة جذع ملقى لا أستطيع شيئاً، ويقول : الروح إنما كنت ريحاً لا أستطيع أن أعمل شيئاً، فضرب لهما مثل الأعمى والمقعد يحمل الأعمى المقعد فيدله المقعد ببصره ويحمله الأعمى برجليه".
وفي الحديث :"أتدرون من المفلس"، قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع.
قال :"إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، وكان قد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا وسفك دم هذا، فيقضي هذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه ثم طرح في النار".
فإن قيل : قال في آية أخرى :﴿لا تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ﴾ (ق : ٢٨).
قيل : إن في يوم القيامة ساعات كثيرة وأحوالها مختلفة مرة يختصمون ومرة لا يختصمون كما أنه قال :﴿فَهُمْ لا يَتَسَآءَلُونَ﴾ (القصص : ٦٦).
وقال في آية أخرى :﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ (الصافات : ٢٧).
يعني في حال لا يتساءلون، وفي حال يتساءلون، وكما أنه قال :﴿فَيَوْمَـاـاِذٍ لا يُسْـاَلُ عَن ذَنابِه إِنسٌ وَلا جَآنٌّ﴾ (الرحمن : ٣٩).
وفي موضع آخر :﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْـاَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الحجر : ٩٢).
ونحو هذا كثير في القرآن.
قال بعض الكبار : يوم القيامة يوم عظيم شديد يتجلى الحق فيه أولاً بصفة القهر بحيث يسكت الأنبياء والأولياء، ثم يتجلى باللطف، فيحصل لهم انبساط، فعند ذلك يشفعون.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
قال في "التأويلات النجمية" :﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ ؛ أي : تراجعون الحق تعالى بشفاعة أقربائكم وأهاليكم وأصدقائكم بعد فراغكم من خويصة أنفسكم نسأل الله سبحانه وتعالى العناية.
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ * فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَه ا أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَـافِرِينَ * وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِه أولئك هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَالِكَ جَزَآءُ﴾.
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ﴾.
في "الإرشاد" : المعنى الأول ليختصمون هو الأظهر الأنسب بهذا القول، فإنه مسوق لبيان حال كل من طرفي الاختصام الجاري في شأن الكفر والإيمان لا غيره.
وفي "بحر العلوم" : فيه دلالة بينة على أن الاختصام يوم القيامة بين الظالمين والمظلومين.
والمعنى : أظلم من كل ظالم من افترى على الله بأن أضاف إليه الشرك والولد.
﴿وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ﴾ ؛ أي : بالأمر الذي هو عين الحق ونفس الصدق، وهو ما جاء به النبي عليه السلام :﴿إِذْ جَآءَه﴾ ؛ أي : في مجيئه على لسان الرسول عليه السلام، يعني : فاجأه بالتكذيب ساعة أتاه وأول ما سمعه من غير تدبر فيه ولا تأمل.
وفيه إشارة إلى من يكذب على الله بادعاء أنه أعطاه رتبة وحالاً ومقاماً، وإذا وجد صديقاً جاء بالصديق في المقال والأحوال كذبه، وينكر على صدقه، فيكون حاصل أمره يوم القيامة، قوله :﴿وَيَوْمَ الْقِيَـامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ﴾ (الزمر : ٦٠)، ولهذا قال تعالى :﴿أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَـافِرِينَ﴾ استفهام إنكاري وإنكار النفي نفي له ونفي النفي إثبات.
والثواء : هو الإقامة والاستقرار والمثوى المقام والمستقر.
والمعنى : أن جهنم منزل ومقام للكاذبين المكذبين المذكورين وغيرهم من الكفار جزاء لكفرهم وتكذيبهم.
١٠٧
﴿وَالَّذِى جَآءَ﴾ :(وانكه آمد ويا آرد).
﴿بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ : الموصول عبارة عن رسول الله عليه السلام، ومن تبعه من المؤمنين كما في قوله تعالى :﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَـابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ (المؤمنون : ٤٩)، فإن المراد : موسى عليه السلام وقومه.
﴿أولئك﴾ : الموصوفون بالصدق والتصديق.
﴿هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ المنعوتون بالتقوى التي هي أجلّ الرغائب.
وقال الإمام السهيلي رحمه الله.
﴿وَالَّذِى جَآءَ بِالصِّدْقِ﴾ : هو رسول الله.
الذي ﴿وَصَدَّقَ بِهِ﴾.
هو الصديق رضي الله عنه، ودخل في الآية بالمعنى كل من صدق، ولذلك قال :﴿وَأُولَئكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾.
انتهى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
وفيه على ما قال أهل التفسير : أنه يلزم إضمار الذي بأن يقال : والذي صدق به وذا غير جائز.


الصفحة التالية
Icon