ودلت الآية على أن النبي عليه السلام يصدق أيضاً بما جاء به من عند الله ويتلقاه بالقبول كما قال الله تعالى :﴿الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّه وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة : ٢٨٥).
ومن هنا قال بعضهم : إن النبي عليه السلام مرسل إلى نفسه أيضاً، وهكذا وارث الرسول، فإنه لا يتردد في صدق حاله وتصديق الخبر الذي يأتيه من الله تعالى، فيفيض بركة حاله إلى وجوده كله، وإلى من يعتقده ويصدقه ألا ترى أن النبي عليه السلام أتى بالصدق وأفاض من بركات صدقه على أبي بكر رضي الله عنه، فسمي صديقاً، وهكذا حال سائر الصديقين.
قال الحافظ :
بصدق كوش كه خورشيد زايد ازنفست
كه از دروغ سيه روى كشت صبح نخست
يعني : أن الصادق الصديق يتولد من نفسه نفس الشمس المعنوية فتنور الأنفس كما أن الصبح الصادق تطلع بعده الشمس الصورية فتنورالآفاق بخلاف حال الكاذب، فإنه كالصبح الكاذب حيث تعقبه الظلمة.
﴿لَهُمُ﴾ ؛ أي : للمتقين بمقابلة محاسن أعمالهم في الدنيا.
﴿مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ ؛ أي : كل ما يشاؤونه من جلب المنافع ودفع المضار في الآخرة لا في الجنة فقط لما أن بعض ما يشاؤونه من تكفير السيئات، والأمن من الفزع وسائر أهوال القيامة، إنما يقع قبل دخول الجنة.
يقال : أجمع العبارات لنعيم الجنة.
﴿وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ﴾ (النحل : ٥٧)وأجمع العبارات لعذاب الآخرة.
﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ (سبأ : ٥٤).
وفي "التأويلات النجمية" :﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾، لأنهم تقربوا إلى الله تعالى بالاتقاء به عما سواه فأوجب الله في ذمة كرمه أن يتقرب إليهم بإعطاء ما يشاؤون من عنده بحسب حسن استعدادهم.
﴿ذَالِكَ﴾ ؛ أي : حصول ما يشاؤونه.
﴿جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ ثواب الذين أحسنوا أعمالهم بأن عملوها على مشاهدة الحق
﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَالِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِه وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَه مِن مُّضِلٍّا أَلَيْسَ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُوا﴾.
قال الراغب : الكفارة ما يغطي الإثم.
ومنه كفارة اليمين والقتل والظهار.
والتكفير : ستره وتغطيته حتى يصير بمنزلة ما لم يعمل، ويجوز أن يكون بمعنى إزالة الكفر والكفران كالتمريض، بمعنى إزالة المرض، واللام متصل بالمحسنين، يعني الذين أحسنوا رجاء أن يكفر الله، إلخ.
أو بالجزاء، يعني : جزاهم كي يكفر عنهم كذا في "كشف الأسرار".
وقال المولى أبو السعود رحمه الله : اللام متعلق بقوله : لهم ما يشاؤون باعتبار فحواه الذي هو الوعد ؛ أي : وعدهم الله جميع ما يشاؤونه من زوال المضار، وحصول المسار ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا دفعاً لمضارهم.
﴿وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم﴾، ويعطيهم ثوابهم ﴿بِأَحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ؛ أي : إعطاؤنا لمنافعهم وإضافة الأسوأ والأحسن إلى ما بعدهما ليست
١٠٨
من قبيل إضافة المفضل إلى المفضل عليه، بل من إضافة الشيء إلى بعضه للقصد إلى التحقيق والتوضيح من غير اعتبار تفضيله عليه، وإنما المعتبر فيهما مطلق الفضل والزيادة لا على المضاف إليه المعين بخصوصه خلا أن الزيادة المعتبرة فيها ليست بطريق الحقيقة، بل هي في الأول بالنظر إلى ما يليق بحالهم من استعظام سيئاتهم.
وإن قلت : واستصغار حسناتهم، وإن جلت.
والثاني : بالنظر إلى لطف كرم أكرم الأكرمين من استكثار الحسنة اليسيرة ومقابلتها بالمثوبات الكثيرة وحمل الزيادة على الحقيقة، وإن أمكن في الأول بناء على أن تخصيص الأسوأ بالذكر لسان تكفير ما دونه بطريق الأولوية ضرورة استلزام تكفير الأسوأ لتكفير السَّيِّىء لكن لما لم يكن ذلك في الأحسن، كان الأحسن نظمها في سلك واحد من الاعتبار.
والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني دون الأول للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة بخلاف السيئة، كذا في "الإرشاد".
واعلم أن سبب التكفير والأجر الأحسن هو الصدق، وهو من المواهب لا من المكاسب في الحقيقة، وإن كان حصول أثره منوطاً بفعل العبد، ويجري في القول والفعل والوعد والعزم.
قال أبو يزيد البسطامي قدس سره : أوقفني الحق سبحانه بين يديه ألف موقف، في كل موقف عرض عليّ مملكة الدارين، فقلت : لا أريدها، فقال لي : في آخر موقف : يا أبا يزيد ما تريد، قلت : أريد أن لا أريد.
قال : أنت عبدي حقاً وصدقاً :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
من كه باشم كه مرا خواست بود


الصفحة التالية
Icon