وفي الحديث :"إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها وأنا آخذ بحجزكم تقحمون فيه"(١).
والحجز : جمع الحجزة، كالكدرة، وهي معقد الإزار خصه بالذكر، لأن أخذ الوسط أقوى في المنع وأصل تقحمون بالتشديد تتقحمون وفيه ؛ أي : في النار على تأويل المذكور، يعني : أنا آخذكم حتى أبعدكم عن النار وأنتم تدخلون فيها بشدة.
ومعنى التمثيل : أن النبي عليه السلام في منعهم عن المعاصي والشهوات المؤدية إلى النار وكونهم متقحمين متكلفين في وقوعها مشبه بشخص مشفق يمنع الدواب عنهم وهن يغلبنه.
وفي الحديث إخبار عن فرط شفقته على أمته وحفظهم من العذاب، ولا شك فيه لأن الأمم في حجر الأنبياء كالصبيان الأغبياء في أكناف الآباء صلوات الله عليهم وسلامه.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
وفي الحديث :"إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به، فعلم وعلم ومثل من لم يرفع لذلك رأساً" ؛ أي : لم يلتفت إليه بالعمل، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
انتهى، فعلم العالم العامل المعلم كالمطر الواقع على التربة الطيبة، وعلم العالم المعلم الغير العامل كالمطر الواقع على الأجادب، وأما الذي لا يقبل الهدى أصلاً، فكان كالأرض التي لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فكما أنها ليس فيها ماء ولا كلأ، فكذا الكافر والجاهل ليس فيه علم ولا عمل، فلا لنفسه نفع ولا لغيره.
﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الانفُسَ حِينَ مَوْتِهَا﴾.
يقال : توفاه الله، قبض روحه.
كما في "القاموس".
والأنفس : جمع نفس بسكون الفاء، وهي النفس الناطقة المسماة عند أهل الشرع بالروح الإضافي الإنساني السلطاني، فسميت نفساً باعتبار تعلقها بالبدن وانصياعها بأحكامه، والتلبس بغواشيه وروحاً باعتبار تجردها في نفسها ورجوعها إلى الله تعالى.
فالنفس ناسوتية سفلية والروح لاهوتية علوية.
قالوا : الروح الإنساني جوهر بسيط محرك للجسم، وليس هو حالاً في البدن كالحلول السرياني ولا كالحلول الجواري، ولكن له تعلق به تعلق التدبير والتصرف والروح الحيواني أثر من آثار هذا الروح على ما سبق مني تحقيقه في سورة الإسراء عند قوله تعالى :﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى﴾ (الإسراء : ٨٥)، فهو من الروح الإنساني كالقمر من الشمس في استفاضة النور والبهائم تشارك فيه الإنسان وهو الروح الذي يتصرف في تعديله وتقويته علم الطب ولا يحمل الأمانة والمعرفة والتراب يأكل محله، وهو البدن العامي، لأن الله تعالى حرم على الأرض
١١٣
أن تأكل أجساد الأنبياء والصديقين والشهداء بخلاف الروح الإنساني، فإنه حامل الأمانة والمعرفة والإيمان ويتصرف فيه علم الشريعة والطريقة والمعرفة والحقيقة بتوسط الحكماء الإلهيين، ولا يأكله التراب، وهو باعتبار كونه نفساً هو النبي والولي والمشار إليه بأنا، والمدرج في الخرقة بعد مفارقته عن البدن، والمسؤول في القبر والمثاب والعقاب، وليس له علاقة مع البدن سوى أن يستعمله في كسب المعارف بواسطة شبكة الحواس، فإن البدن آلته ومركبه وشبكته، وبطلان الآلة والمركب والشبكة لا يوجب بطلان الصياد.
نعم بطلت الشبكة بعد الفراغ من الصيد، فبطلانها غنيمة إذ يتخلص من حملها وثقلها.
ولذا قال عليه السلام :"الموت تحفة المؤمن".
أما لو بطلت الشبكة قبل الصيد، فقد عظمت فيه الحسرة والندامة، ولذا يقول المقصرون :﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّى أَعْمَلُ صَـالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ (المؤمنون : ٩٩ ـ ـ ١٠٠) الآية.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
والموت : زوال القوة الحساسة كما أن الحياة وجود هذه القوة، ومنه سمي الحيوان حيواناً ومبدأ هذه القوة هو الروح الحيواني الذي محله الدماغ كما أن محل الروح الإنساني : القلب الصنوبري ولا يلزم من ذلك تحيزه فيه، وإن كانت الأرواح البشرية متحيزة عند أهل السنة.
ثم إن الإنسان ما دام حياً، فهو إنسان بالحقيقة، فإذا مات فهو إنسان بالمجاز ؛ لأن إنسانيته في الحقيقة إنما كانت بتعلق الروح الإنساني، وقد فارقه.
وفي المثنوي :
جان زريش وسبلت تن فارغست
ليك تن بى جان بود مرداريست
ومعنى الآية : يقبض الله الأرواح الإنسانية عن الأبدان بأن يقطع تعلقها عنها وتصرفها فيها ظاهراً وباطناً، وذلك عند الموت، فيزول الحس والحركة عن الأبدان، وتبقى كالخشب اليابس ويذهب العقل والإيمان والمعرفة مع الأرواح.
وفي "الوسيط" :﴿حِينَ مَوْتِهَا﴾ ؛ أي : حين موت أبدانها وأجسادها على حذف المضاف.


الصفحة التالية
Icon