يقول الفقير : ظاهره يخالف قوله تعالى :﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآاـاِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (آل عمران : ١٨٥)، فإن المفهوم منه أن الموت يطرأ على النفوس لا على البدن، اللهم إلا أن يقال : المراد أن الله يتوفى الأرواح حين موت أبدانها بمفارقة أرواحها عنها وأسند القبض إليه تعالى، لأنه الآمر للملائكة القابضين.
وفي "زهرة الرياض" : التوفي من الله الأمر بخروج الروح من البدن لو اجتمعت الملائكة لم يقدروا على إخراجه، فالله يأمره بالخروج كما أمره بالدخول، ومن الملائكة المعالجة، وإذا بلغت الحنجرة يأخذها ملك الموت على الإيمان، أو الكفر.
انتهى.
على أن من خواص العباد من يتولى الله قبض روحه، كما روي أن فاطمة الزهراء رضي الله عنها لما نزل عليها ملك الموت لم ترض بقبضه، فقبض الله روحها، وأما النبي عليه السلام، فإنما قبضه ملك الموت لكونه مقدم الأمة، وكما قال ذو النون المصري قدس سره : إلهي لا تكلني إلى ملك الموت، ولكن اقبض روحي أنت ولا تكلني إلى رضوان، وأكرمني أنت ولا تكلني إلى مالك، وعذبني أنت، نسأل الله الفضل على كل حال.
﴿وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا﴾ قوله :﴿فِى مَنَامِهَا﴾ متعلق بيتوفى المقدر.
المنام والنوم واحد، وهو استرخاء أعصاب الدماغ برطوبات البخار الصاعد إليه.
وقيل : هو أن يتوفى الله النفس من غير موت كما في الآية.
وقيل : النوم موت خفيف والموت : نوم ثقيل.
وهذه التعريفات كلها صحيح بنظرات مختلفة.
والمعنى :
١١٤
ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ؛ أي : يتوفاها حين نومها بأن يقطع تعلقها عن الأبدان، وتصرفها فيها ظاهراً لا باطناً، فالنائم يتنفس ويتحرك ببقاء الروح الحيواني، ولا يعقل ولا يميز بزوال الروح الإنساني ومثل النوم حال الانسلاخ عند الصوفية إلا أن المنسلخ حال اليقظة أقوى حالاً وشهوداً من المنسلخ حال النوم، وهو النائم وعبر عن الموت، والنوم بالتوفي تشبيهاً للنائمين بالموتى لعدم تميزهم، ولذا ورد : النوم أخو الموت".
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
وعن علي رضي الله عنه أن الروح يخرج عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد، فلذلك يرى الرؤيا، فإذا انتبه عاد روحه إلى جسده بأسرع من لحظة.
ويروى : أن أرواح المؤمنين تعرج عند النوم إلى السماء، فمن كان منهم طاهراً ؛ أي : على وضوء أذن له في السجودتعالى تحت العرش، ومن لم يكن منهم طاهراً، لم يؤذن له فيه، فلذلك يستحب أن ينام الرجل على الوضوء لتصدق رؤياه، ويكون له مع الله معاملات ومخاطبات.
قال بعضهم : خلق الله الأرواح على اللطافة والأجساد على الكثافة، فلما أمرت بالتعلق بالأجساد انقبضت من الاحتجاب بها، فجعل الله النوم والانسلاخ سبباً لسيرها في عالم الملكوت، حتى يتجدد لها المشاهدة، وتزيد الرغبة في قرب المولى ؛ وإنما يستريح العبد ويجد اللذة في النوم ؛ لأنه في يد الله، وهو أرحم الراحمين، ويضطرب ويجد الألم في الموت ؛ لأنه في يد ملك الموت، وهو أشد الخلائق أجمعين.
﴿فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾ إمساك شيء تعلق به وحفظه، والقضاء الحكم ؛ أي : يمسك أنفس الأموات عنده ولا يردها إلى البدن، وذلك الإمساك إنما هو عالم البرزخ الذي تكون الأرواح فيه بعد المفارقة من النشأة الدنيوية، وهو غير البرزخ بين الأرواح المجردة والأجسام ؛ أي : غير عالم المثال الذي كان النوم أو الانسلاخ سبباً للدخول فيه ؛ لأن مراتب تنزلات الوجود ومعارجه دورية والمرتبة التي قبل النشأة الدنيوية هي من مراتب التنزلات ولها الأولية والتي بعدها هي من مراتب المعارج، ولها الآخرية، وأيضاً : الصور التي تلحق الأرواح في البرزخ الأخير ؛ إنما هي صور الأعمال ونتائج الأفعال السابقة في النشأة الدنيوية بخلاف صور البرزخ الأول، فلا يكون شيء منهما عين الآخرة، لكنهما يشتركان في كونهما عالماً روحانياً وجوهراً نورانياً غير مادي مشتملاً على مثال صور العالم.
﴿وَيُرْسِلُ الاخْرَى﴾ ؛ أي : ويرسل أنفس الأحياء، وهي النائمة إلى أبدانها عند اليقظة والنزول في عالم المثال المقيد، والعالم المثال شبه بالجوهر الجسماني في كونه محسوساً مقدارياً، وبالجوهر العقلي المجرد في كونه نورانياً، فجعل الله عالم المثال وسطاً شبيهاً بكل من الطرفين حتى يتجسد أولاً، ثم يتكاثف.
ألا ترى أن حقيقة العلم الذي هو مجرد يتجسد بالصورة التي في عالم المثال.
﴿إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ : هو الوقت المضروب لموتها، وهو غاية لجنس الإرسال ؛ أي : لا لشخصه حتى يرد لزوم أن لا يقع بعد اليقظة الأولى.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
وعن سعيد بن جبير أن أرواح الأحياء وأرواح الأموات تلتقي في المنام، فيتعارف منها ما شاء الله أن يتعارف، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجسادها إلى انقضاء مدة حياتها.
وفي "الأسئلة المقحمة" : يقبض الروح حال النوم، ثم يمسك الروح التي قضى الموت على صاحبها، ووافق نومه أجله.
انتهى.


الصفحة التالية
Icon