من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد، فإنه القادر على الأشياء بجملتها، والعالم بأحوالها برمّتها.
﴿أَنتَ﴾ وحدك ﴿تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ﴾ ؛ أي : بيني وبين قومي، وكذا بين سائر العباد.
﴿فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ ؛ أي : يختلفون فيه من أمر الدين ؛ أي : تحكم حكماً يسلمه كل مكابر، ويخضع له كل معاند، وهو العذاب الدنيوي أو الأخروي.
والثاني أنسب بما بعد الآية.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
وفيه إشارة إلى اختلاف بين الموحدين والمشركين، فإن الموحدين باشروا الأمور بالشرع على ما اقتضاه الأمر والمشركين بالطبع على ما استدعاه الشهوة والهوى، والله تعالى يحكم بينهم في الدنيا وفي الآخرة.
أما في الدينا، فبالعفو والفضل والكرم، وتوفيق التوبة والإنابة وإصلاح ذات البين.
وأما في الآخرة، فبالعدل والنصفة وانتقام بعضهم من بعض.
كان الربيع بكسر الباء من المحدثين لا يتكلم إلا فيما يعنيه، فلما قتل الحسين رضي الله عنه.
قيل : الآن يتكلم، فقرأ : قل اللهم إلى قوله : يختلفون.
وروي : أنه قال : قتل من كان يجلسه النبي عليه السلام في حجره ويضع فاه على فيه.
وعن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا افتتح صلاته من الليل يقول :"اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بأمرك إنك تهدي من شئت إلى صراط مستقيم".
وفي الآية إشارة إلى أن الحاكم الحقيقي هو الله تعالى، وكل حكمه وقضائه عدل محض وحكمة بخلاف حكم غيره تعالى.
وفي الحديث :"ليس أحد يحكم بين الناس إلا جيء يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه فكفه العدل واسلمه الجور".
وقال في "روضة الأخيار" : كان عمر بن هبيرة أمير العراق وخراسان في أيام مروان بن محمد، فدعا أبا حنيفة إلى القضاء ثلاث مرات فأبى فحلف ليضربنه بالسياط وليسجننه وفعل حتى انتفخ وجه أبي حنيفة ورأسه من الضرب، فقال : الضرب بالسياط في الدنيا أهون عليّ من مقامع الحديد في الآخرة، ونعم ما قال من قال :
بو حنيفة قضانكرد وبمرد
توبميرى اكر قضانكنى
﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ عَـالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَـادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِى الارْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَه مَعَه افْتَدَوْا بِه مِن سُواءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِا وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ﴾.
﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِى الارْضِ جَمِيعًا﴾ حال ما ؛ أي : لو أن لهم جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر.
﴿وَمِثْلَه مَعَهُ﴾.
(وما نندن آن همه مالها بآن).
﴿افْتَدَوْا بِه مِن سُواءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ﴾.
يقال : افتدى إذا بذل المال عن نفسه، فإن الفداء حفظ الإنسان من النائبة بما يبذله عنه ؛ أي : لجعلوا كل ذلك فدية لأنفسهم من العذاب الشديد لكن لا مال يوم القيامة، ولو كان لا يقبل الافتداء به، وهذا وعيد شديد وإقناط لهم من الخلاص.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
وفي "التأويلات النجمية" : يشير إلى أن هذه الجملة لا يقبل يوم القيامة لدفع العذاب، واليوم ها هنا تقبل ذرة من الخير ولقمة من الصدقة، وكلمة من التوبة والاستغفار كما أنهم لو تابوا وبكوا في الآخرة بالدماء لا يرحم بكاؤهم ويدمعة واحدة اليوم يمحى كثير من ذنوبهم.
وفي المثنوي :
آخر هركريه آخر خنده ايست
مرد آخر بين مبارك بنده ايست
اشك كان ازبهر أو بارند خلق
كوهراست واشك بندار ند خلق
ألا ترى إلى دموع آدم وحواء عليهما السلام، حيث صارت جواهر في الدنيا، فكيف في العقبى.
١٢٠
﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾.
يقال : بدا الشيء بدوّاً وبداء ؛ أي : ظهر ظهوراً بيناً.
والاحتساب : الاعتداد بالشيء من جهة دخوله فيما يحسبه ؛ أي : ظهر لهم يوم القيامة من فنون العقوبات ما لم يكن في حسابهم في الدنيا وفي ظنهم أنه نازل بهم يومئذٍ.
قال الكاشفي :(بنداشت ايشان آن بودكه بوسيله شفاعت بتان رتبة قرب يابند).
﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّـاَاتُ مَا كَسَبُوا﴾ سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض عليهم صحائفهم.
﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِه يَسْتَهْزِءُونَ﴾ ؛ أي : نزل وأصاب وأحاط بهم وبال استهزائهم، وجزاء مكرهم، وكانوا يستهزؤون بالكتاب والمسلمين والبعث والعذاب ونحو ذلك.
وهذه الآية ؛ أي : قوله :﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ﴾ إلخ.
غاية في الوعيد لا غاية وراءها، ونظيره في الوعد قوله تعالى :﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ (السجدة : ١٧).


الصفحة التالية
Icon