ومنها : إن نعمة الدنيا والآخرة وسعادتهما، وكذا نقمتهما وشقاوتهما مبنية على مشيئة الله تعالى لا على مشيئة العباد، فالأوجب للمؤمنين أن يخرجوا عن مشيئتهم ويستسلموا لمشيئة الله وحكمه وقضائه :
كليد قدر نيست دردست كس
تواناى مطلق خدايست وبس
قال بعضهم :
هرجه بايد بهر كه ميشايد
تودهى آنجنا نكه مى بايد
توشناسى صلاح كار همه
كه تويى آفريد كار همه
ومنها : أن ضيق حال اللبيب وسعة حال الأبله دليل على الرزاق وتقديره.
ويرد بهذه الآية على من يرى الغنى من الكيس والفقر من العجز أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : أتدري لم رزقت الأحمق قال : يا رب لا، قال : ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتيال، فالكل بيد الله ألا إلى الله تصير الأمور، وبه ظهر فساد قول ابن الراوندي :()
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة
وصير العالم النحرير زنديقا
أي : كافراً نافياً للصانع العدل الحكيم قائلاً :) لو كان له الوجود لما كان الأمر كذلك، ولقد أحسن من قال :()
١٢٣
كم من أديب فهم عقله
مستكمل العقل مقل عديم
ومن جهول مكثر ماله
ذلك تقدير العزيز العليم
يعني : أن من نظر إلى التقدير علم أن الأمور الجارية على أهل العالم كلها على وفق الحكمة، وعلى مقتضى المصلحة.
ففيه إرشاد إلى إثبات الصانع الحكيم لا إلى نفي وجوده.
﴿قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
قال الراغب : السرف تجاوز الحدّ في كل ما يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر، وقوله تعالى :﴿قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾.
يتناول الإسراف في الأموال، وفي غيرها.
انتهى.
وتعدية الإسراف بعلى لتضمين معنى الجناية، والمعنى : أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي وارتكاب الكبائر والفواحش.
قال البيضاوي ومن تبعه : إضافة العباد تخصصه بالمؤمن على ما هو عرف القرآن.
يقول الفقير : قوله تعالى :﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَـاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ (الإسراء : ٥).
ينادى على خلافه ؛ لأن العباد، فسر ها هنا ببخت نصر وقومه، وكانوا كفاراً بالإتفاق إلا أن يدعي الفرق بين الإضافة بالواسطة وبغيرها.
وقال في "الوسيط" : المفسرون كلهم.
قالوا : إن هذه الآية نزلت في قوم خافوا إن أسلموا أن لا يغفر بهم ما جنوا من الذنوب العظام كالشرك وقتل النفس والزنا، ومعاداة النبي عليه السلام، والقتال معه، فأنزل الله هذه الآية، وفرح النبي عليه السلام بهذه الآية، ورآها أصحابه من أوسع الآيات في مغفرة الذنوب، انتهى.
وقال في "التكملة" روي : أن وحشياً قاتل حمزة رضي الله عنه كتب إلى النبي عليه السلام يسأله : هل له من توبة؟ وكتب أنه كان قد سمع فيما أنزل الله بمكة من القرآن آيتين أيأستاه من كل خير، وهما قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا ءَاخَرَ﴾ إلى قوله :﴿مُهَانًا﴾ (الفرقان : ٦٨ ـ ـ ٦٩) فنزلت ﴿إِلا مَن تَابَ﴾ (مريم : ٦٠) إلخ، فكتب بها رسول الله عليه السلام، فخاف وحشي.
وقال العلي لا أبقى حتى أعمل صالحاً، فأنزل الله :﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَالِكَ﴾ (النساء : ٤٨) الخ.
فقال وحشي : إني أخاف أن لا أكون من مشيئة الله، فأنزل الله تعالى :﴿قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ﴾ إلخ، فأقبل وحشي وأسلم.
انتهى.
وعلى كل تقدير فخصوص السبب لا ينافي عموم اللفظ، فدخل فيه كل مسرف.
﴿لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾.
القنوط : أعظم اليأس.
وفي "المفردات" : اليأس من الخير.
وبالفارسية :(نوميدشدن از خير).
والرحمة من الله تعالى الإنعام والإعطاء والتفضل.
وبالفارسية :(بخشايش)، وهو لا يكون في الترتيب الوجودي إلا بعد المغفرة التي هي أن يصون الله عبده من أن يمسه العذاب دل عليه قوله :﴿إِنَّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
ولذا قالوا في المعنى : لا تيأسوا من مغفرته أولاً وتفضله ثانياً :
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٦٨
نوميد مشوكه نا اميدى كفراست
(در معالم التنزيل آورده كه ابن مسعود رضي الله عنه در مسجد در آمد ديد كه واعظى ذكر آتش دوزخ وسلاسل وأغلال ميكند فرمود كه ا مذكر جرا نوميد مى كردانى مردمانرا مكر نخواندى آنرا كه ميفرمايد).
﴿قُلْ يا عِبَادِىَ الَّذِينَ﴾ الخ.
واعلم أن القنوط من رحمة الله علامة زوال الاستعداد، والسقوط عن الفطرة بانقطاع الوصلة بين الحق والعبد إذ لو بقي شيء في العبد من نوره الأصلي لأدرك أثر رحمته الواسعة السابقة على غضبه، فرجاء وصول
١٢٤


الصفحة التالية
Icon