أنت مع علمه بجهله ﴿شَاعِرٌ﴾ أي هو شاعر وقد سبق معنى الشعر والشاعر في أواخر سورة يس مفصلاً قال الإمام المرزوقي شارح الحماسة تأخر الشعراء عن البلغاء لتأخر المنظوم عند العرب لأن ملوكهم قبل الإسلام وبعده يتحجون بالخطابة ويعدونها أكمل أسباب الرياسة ويعدون الشعر دناءة ولأن الشعر كان مكسبة وتجارة وفيه وصف اللئيم عند الطمع بصفة الكريم والكريم عند تأخر صلته بوصف اللئيم ومما يدل على شرف النثر أن الإعجاز وقع في النثر دون النظم لأن زمن النبي عليه السلام زمن الفصاحة كذا ذكره صاحب روضة الاخبار فإن قلت فإذا كان الإعجاز وقعاً في النثر فكيف قالوا في حق القرآن شعر وفي حقه عليه السلام شاعر قلت ظنوا أنه عليه السلام كان يرجو الأجر على التبليغ ولذا قال تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر فكان عليه السلام عندهم بمنزلة الشاعر حيث أن الشاعر إنما يستجلب بشعره في الأغلب المال وأيضاً لما كانوا يعدون الشعر دناءة حملوا القرآن عليه ومرادهم عدم الاعتداد به فإن قلت كيف كانوا يعدون الشعر دناءة وقد اشتهر افتخارهم بالقصائد حتى كانوا يعقلونها على جدار الكعبة قلت : كان ذلك من كمال عنادهم أو جرياً على مسلك أهل الخطابة من الأوائل فاعرف فإن هذا زائد على ما فصل في سورة يس وقد لاح بالبال في هذا المقام قال ابن الشيخ قوله أم يقولون الخ من باب الترقي إلى قولهم فيه أنه شاعر لأن الشاعر أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون وقد قيل أحسن الشعر أكذبه وكانوا يقولون : لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره وإنا نصبر ونتربص موته وهلاكه كما هلك من قبله من الشعراء وحينئذ تتفرق أصحابه وأن أباه مات شاباً ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه وذلك قوله سبحانه وتعالى ﴿نَّتَرَبَّصُ بِه رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ التربص الانتظار والريب ما يقلق النفوس أي يورث قلقاً واضطراباً لها من حوادث الدهر وتقلبات الزمان فهو بمعنى الرائب من قولهم رابه الدهر وأرابه أي أقلقه وقيل سميت ريباً لأنها لا تدوم على حال كالريب وهو الشك فإنه لا يبقى بل هو متزلزل وفي المفردات ريب الدهر صروفه وإنما قيل ريب لما يتوهم فيه من المنكر وفيه أيضاً الريب أن تتوهم بالشيء أمراً ما فينكشف عما توهمته ولهذا قال تعالى : لا ريب فيه والإرابة أن تتوهم فيه أمراً فلا ينكشف عما تتوهمه وقوله تتربص به ريب المنون سماه ريباً لا من حيث أنه مشكك في كونه بل من حيث أنه يشكك في وقت حصوله فالإنسان أبداً في ريب المنون من جهة وقته لا من جهة كونه وعلى هذا قال الشاعر :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ١٨٤
الناس قد علموا أن لا بقاء لهم
لو أنهم عملوا مقدار ما علموا
انتهى والمنون الدهر والموت والكثير لامتنان كالمنونة والتي تزوجت لما لها فهي تمن على زوجها كالمنانة انتهى وقيل في الآية المنون الموت وربيه أوجاعه وهو في الأصل فعول من منه إذا قطعه لأن الدهر يقطع القوى والموت يقطع الأماني والعمر وفي المفردات قيل : المنون للمنية لأنها تنقص العدد وتقطع المدد انتهى وريب منصوب على أنه مفعول به والمعنى بل أيقولون ننتظر به نوائب الدهر فيهلك كما هلك غيره من الشعراء زهير والنابغة وطرفة
٢٠٠


الصفحة التالية
Icon