يقول الفقير فيه بعد كما لا يخفى والظاهر أن صيغة الماضي باعتبار قولهم قد ضل وغوى إشارة إلى تحقق ذلك في زعمهم وأما صيغة المضارع فباعتبار تجدد النطق في كل حال والله أعلم بكل حال ﴿إِنْ هُوَ﴾ أي ما الذي ينطق به من القرآن ﴿إِلا وَحْىٌ﴾ من الله تعالى ﴿يُوحَى﴾ إليه بواسطة جبريل عليهما السلام وهو صفة مؤكدة لوحي رافعة لاحتمال المجاز مفيدة للاستمرار التجددي يعني أن فائدة الوصف التنبيه على أنه وحي حقيقة لا أنه يسمى به مجازاً والوحي قد يكون إسماً بمعنى الكتاب الإلهي وقد يكون مصدراً وله معان الإرسال والإلهام والكتابة والكلام والإشارة والإفهام وفيه إشارة إلى أن النبي عليه السلام قد فنة عن ذاته وصفاته وأفعاله في ذات الله وصفاته وأفعاله بحيث لم يبق منه لا اسم ولا رسم ولا أثر ولا عين فكان ناطقاً بنطق الحق لا بنطق البشرية فلا يتوهم فيه أن يجري عليه الخطرات الشيطانية والهواجس النفسانية ولذا قالوا ما يصدر عن الواصل شريعة إذ هو محفوظ كما أن النبي عليه السلام معصوم قال بعض الكبار : من وضع من الفقراء وردا من غير الوارد في السنة فقد أساء الأدب مع الله ورسوله إلا أن يكون ذلك بتعريف من الله تعالى فيعرفه خصائص كلمات يجمعها فيكون حينئذ ممتثلاً لا مخترعاً وذلك مثل حزب البحر للشاذلي قدس سره فإنه سافر في بحر القلزم مع نصراني يقصد الحج فتوقف عليهم الريح أياماً فرأى النبي عليه السلام في مبشرة فلقنه إياه فقرأه وأمر النصراني بالسفر فقال وأين الريح فقال : افعل فإنه الآن يأتيك فكان الأمر كما قال وأسلم النصراني بعد ذلك وقس عليه الإلهام والتعريف في اليقظة وقد أخبر أبو يزيد البسطامي قدس سره أنه يولد بعد وفاته بمدة طويلة نفس من أنفاس الله وهو الشيخ أبو الحسن الخرقاني قدس سره فكان كما قال.
وكذا قال صاحب المثنوي :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٠٨
لوح محفوظست اورا يشوا
ازه محفوظست محفوظ ازخطا
نى نجومست ونى رملست ونه خواب
وحى حق والله أعلم بالصواب
ازى رووش عامه در بيان
وحى دل كويند اورا صوفيان
وحى دل كيرش كه منظر كاه اوست
ون خطا باشد و دل آكاه اوست
مؤمنا ينظر بنور الله شدى
از خطا وسهو ايمن آمدى
٢١٣
﴿عَلَّمَهُ﴾ أي القرآن الرسول أي نزل به عليه وقرأه عليه وبينه له هذا على أن يكون الوحي بمعنى الكتاب وإن كان بمعنى الإلهام فتعليمه بتبليغه إلى قلبه فيكون كقوله نزل به الروح الأمين على قلبك ﴿شَدِيدُ الْقُوَى﴾ من إضافة الصفة إلى فاعلها مثل حسن الوجه والموصوف محذوف أي ملك شديد قواه وهو جبريل فإنه الواسطة في إبداء الخوارق ويكفيك دليلاً على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلام وصياح الديكة ثم قلبها وصاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين ورأى إبليس يكلم عيسة عليه السلام على بعض عقبات الأرض المقدسة فنفخه نفخة بجناحه يعني بادزد ويرا بجناح خود بادى وألقاه في أقصى جبل في الهند وكان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام وصعوده في أسرع من رجعة الطرف أي حصافة يعني استحكام في عقله ورأيه ومتانة في دينه قال الراغب : أمررت الحبل إذا فتلته والمرير والممر المفتول ومنه فلان ذو مرة كأنه محكم الفتل وفي القاموس المرة بالكسر قوة الخلق وشدة والجمع مرر وامرار والعقل والأصالة والأحكام والقوة وطاقة الحبل كالمريرة وذو مرة جبريل عليه السلام والمريرة الحبل الشديد الفتل ﴿فَاسْتَوَى﴾ عطف على علمه بطريق التفسير فإنه إلى قوله ما أوحى بيان لكيفية التعليم أي فاستقام جبريل واستقر على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح موشحاً أي مزيناً بالجواهر دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي كصورة دحية أمير العرب وكما أتى إبراهيم عليه السلام في صورة الضيف وداود عليه السلام في صورة الخصم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بجبل حراى وهو الجبل المسمى بجبل النور في قرب مكة فقال : إن الأرض لا تسعى ولكن انظر إلى السماء فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض من المغرب وملأ الأفق فخر رسول الله كما خر موسى في جبل الطور فنزل جبريل في صورة الآدميين فضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه وذلك فإن الجسد وهو في الدنيا لا يتحمل رؤية ما هو خارج عن طور العقل فمنها رؤية الملك على صورة جبل عليها وأعظم منها رؤية الله تعالى في هذه الدار قيل ما رآه أحد من الأنبياء في صورته غير نبينا عليه السلام فإنه رآه فيها مرتين : مرة في الأرض ومرة في السماء ليلة المعراج عند سدرة المنتهى لما سيأتي.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٠٨


الصفحة التالية
Icon