يدور بالبال إلهاماً من الله تعالى لا تعملاً وتأملاً أن النبي عليه السلام إنما عرج ليلة الإسراء بالفناء التام ولذا وقع الإسراء في الليل الذي هو مظهر الفناء دون النهار الذي هو مظهر البقاء وكان مراتب الفناء سبعاً على مراتب الأسماء السبعة التي آخرها القيوم القهار وللإشارة إلى هذه جعلت منارات الحرم المكي سبعاً لأن سر البقاء إنما ظهر في حرم النبي عليه السلام ولذا جعلت مناراته خمساً على عدد مراتب البقاء التي أشير إليها بالأسماء الخمسة الباقية من الإثني عشر التي آخرها الأحد الصمد وكل واحد من تلك الأسماء السبعة مائة على حسب تفصيلها إلى الأسماء الحسنى مع أحدية جمعها فيكون مجموعها بهذا الحسب سبعمائة ولما كان جبريل دون النبي عليه السلام في الفناء لم يتجاوز تلك الليلة مقامه الذي هو سدرة المنتهى حتى قال : لو دنوت أنملة لاحترقت وتجاوزه النبي عليه السلام إلى مستوى العرش وقهره وغلب عليه في ذلك فانتهى سير جبريل إلى الاسم القيوم فصار مقهوراً تحت سير النبي عليه السلام وقائماً في مكانه وقائماً بوحيه للقلوب ولذا سمي بروح القدس لحياة القلوب بوحيه كحياة الأجساد بالأرواح فله من تلك الأجنحة السبعمائة ستمائة صورة ومعنى وانتهى سير النبي عليه السلام إلى الاسم القهار فصار ما حصر الكل من دونه فله سبعمائة جناح معنوية فظهر أن القوة النبوية أزيد من القوة الملكية لأنها القوة الإلهية وقد قال تعالى : يد الله فوق أيديهم وإن جبريل لكونه من الأيدي إنما يستفيد اليد والقوة من يد النبي عليه السلام وقوته فاعرف ذلك وكن من الموقنين ﴿وَهُوَ بِالافُقِ الاعْلَى﴾ حال من فاعل استوى والأفق هي الدائرة التي تفصل بين ما يرى من الفلك وما لا يرى والأفق الأعلى مطلع الشمس كما أن الأفق الأدنى مغربها والمعنى والحال أن جبريل بأفق الشمس أي أقصى الدنيا عند مطلع الشمس وبالفارسية وبكناره بلند تربود از آسمان يعني نزديك مطلع آفتاب.
ومنه يعلم أن مطلع الشمس ومغربها كرأس الإنسان ورجله وإن كانت الدنيا كالكرة على ما سلف وأيضاً مثل روح الإنسان وجسده فإن الروح علوي والجسد سفلي وقد طلع من عالم الأرواح وغرب في عالم الأجساد
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٠٨
﴿ثُمَّ دَنَا﴾ أي أراد الدنو من النبي عليه السلام حال كونه في جبل حراء والدنو القرب بالذات أو بالحكم ويستعمل في الزمان والمكان والمنزلة كما في المفردات ﴿فَتَدَلَّى﴾ التدلي استرسال مع تعلق أي استرسل من الأفق الأعلى مع تعلقه به فدنا من النبي عليه السلام يقال : تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير وفي الحديث : لو دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله أي على علمه وقدرته وسلطانه في كل مكان وأدلى دلوه والدوالي الثمر المعلق وبالفارسية أونك ﴿فَكَانَ﴾ أي مقدار امتداد ما بينهما وهو المسافة ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ﴾ من قسى العرب أي مقدارهما في القرب وذكر القوس لأن القرآن نزل بلغة العرب والعرب تجعل مساحة الأشياء بالقوس وفي معالم التنزيل معنى قوله كان بين جبرائيل ومحمد عليهما السلام مقدار قوسين أنه كان بينهما مقدار ما بين الوتر والقوس كأنه غلب القوس على الوتر وهذا إشارة إلى تأكيد القرب وأصله أن الحليفين من العرب كانا إذا أرادا عقد الصفاء والعهد خرجا بقوسيهما فألصقا بينهما يريدان بذلك أنهما متظاهران يحامي كل واحد
٢١٧
منهما عن صاحبه وقيل قدر ذراعين ويسمى الذراع قوساً لأنه يقاس به المذروع أي يقدر فلم يكن قريباً قرب التصاق ولا بعيداً بحيث لا يتأتى معه الإفادة والاستفادة وهو الحد المعهود في مجالسة الأحباء المتأدبين ﴿أَوْ أَدْنَى﴾ أي على تقديركم أيها المخاطبون كما في قوله أو يزيدون فإن التشكيك لا يصح على الله فأو للشك من جهة العباد كما أن كلمة لعل كذلك في مواضع من القرآن أي لو رآهما رأى منكم لقال هو قدر قوسين في القرب أو أدنى أي لالتبس عليه مقدار القرب والمراد أي من قوله ثم دنا إلى قوله أو أدنى تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما أوحى إليه بنفي البعد الملبس وحمله بعضهم على حقيقته حيث قال فكلما دنا جبريل من النبي عليهما السلام انتقص فلما قرب منه مقدار قوسين رآه على صورته التي كان يراه عليها في سائر الأوقات حتى لا يشك أنه جبريل وهنا كلام آخر يجيء بعد تمام الآيات ﴿فَأَوْحَى﴾ أي جبرائيل ﴿إِلَى عَبْدِهِ﴾ أي عبد الله تعالى وإضماره قبل الذكر لغاية ظهوره كما في قوله تعالى ما ترك على ظهرها من دابة أي على ظهر الأرض والمراد بالعبد المشرف بالإضافة إلى الله هو الرسول عليه السلام كما في قوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٠٨


الصفحة التالية
Icon