بحالة تشبه حالة موسى حين أمر بغزوة الشام وظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها وأدخل بني إسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد إهلاك عدوهم وكذلك غزا رسول الله عليه السلام تبوك من أرض الشام وظهر على صاحب دومة الجندل حتى صالحه على الجزية بعد أن أتى به أسيراً وافتتح مكة وأدخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه ثم لقاؤه في السماء السابعة لإبراهيم عليه السلام لحكمتين إحداهما أنه رآه عند البيت المعمور مسند أظهره إليه والبيت المعمور حيال الكعبة أي بإزائها ومقابلتها وإليه تحج الملائكة كما أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة وأذن في الناس بالحج إليها والحكمة الثانية أن آخر أحوال النبي عليه السلام حجه إلى البيت الحرام وحج معه ذلك العام نحو من سبعين ألفاً من المسلمين ورؤية إبراهيم عليه السلام عند أهل التأويل تؤذن بالحج لأنه الداعي إليه والرافع لقواعد الكعبة المحجوجة.
قال الإمام : إن هذه الآية تدل على أن محمداً عليه السلام لم ير الله ليلة المعراج وإنما رأى آيات وفيه خلاف ووجه الدلالة أنه ختم قصة المعراج ههنا برؤية الآيات وقال في موضع آخر : سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً إلى أن قال : لنريه من آياتنا ولو كان رآه لكان ذلك أعظم ما يمكن من الكرامة فكان حقه أن يختم به قصة المعراج انتهى.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٠٨
يقول الفقير : رؤية الآيات مشتملة على رؤية الله تعالى كما قال الشيخ الكبير رضي الله عنه في الفكوك إنما تتعذر الرؤية والإدراك باعتبار تجرد الذات عن المظاهر والنسب والإضافات فأما في المظاهر ومن وراء حجابية المراتب فالإدراك ممكن كما قيل :
كالشمس تمنعك اجتلاءك وجهها
فإذا اكتست برقيق غيم أمكنا
انتهى.
وأما اشتمال إراءة الآيات على إراءة الله تعالى فلما كانت تلك الآيات الملكوتية فوق الآيات الملكية أشهده تعالى في تلك المشاهد ليكمل له الرؤية في جميع المراتب والمشاهد ومن المحال أن يدعو كريم كريماً إلى داره ويضيف حبيب حبيباً في قصره ثم يتستر عنه ولا يريه وجهه.
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن الله تعالى آيات كبرى وصغرى أما الآيات الكبرى فهي الصفات القديمة الأزلية المسماة عند القوم بالأئمة السبعة كالحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والآيات الصغرى هي الأسماء الإلهية التي قال الله تعالى : ولله الأسماء الحسنى وإنما سميت الأولى بالكبرى والثانية بالصغرى لأن الصفات مصادر الأسماء مراجعها كما أن الحي يرجع في الوجود إلى الحياة والعليم إلى العلم والقادر إلى القدرة ولأن الأسماء مظاهر الصفات كما أن الحي يرجع في الوجود إلى الأفعال والأفعال مظاهر الأسماء والآثار مظاهر الأفعال وأما التخصيص بالكبرى دون الصغرى وإن كانت من آيات الله كما قال تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياماً تدعوا فله الأسماء الحسنى لأن شهود الآيات الكبرى يستلزم شهود الآيات الصغرى لأن الله تعالى إذا تجلى لعبده بصفة الحياة والعلم والقدرة لا بد للعبد أن يصير حياً بحياته عليماً بعلمه قديراً بقدرته تلخيص المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما عرج به إلى سماء الجمعية الوحدانية وأدرج في نور الفردانية تجلى الحق سبحانه أولاً بصورة هذه الصفات الكبرى التي هي مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو
٢٣١
بحيث صارت حياته مادة حياة العالم كله علوياً وسفليه روحانيه وجسمانيه معدنيه ونباتيه وحيوانيه وإنسانيه كما قال وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقال : لولاك لما خلقت الأفلاك وقال عليه السلام : أنا من الله والمؤمنون مني وكذا صار علمه محيطاً لجميع المعلومات الغيبية الملكوتية كما جاء في حديث اختصام الملائكة إنه قال : فوضع كفه على كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت علم الأولين والآخرين وفي رواية علم ما كان وما سيكون وكذا قدرته كسر بها أعناق الجبابرة وضرب بالسيف رقاب الأكاسرة وخرب حيطانهم وحصونهم فما بقين ولا بقوا وببركة هذا التجلي الجمعي الكلي الإحاطي صار آدم بتبعيته وخلافته خليفة العالم كما أخبر في كتابه العزيز أني جاعل في الأرض خليفة وأسجد الله الملائكة لتلألؤ نوره والوحداني في وجه آدم هذا تحقيق قوله : لقد رأى من آيات ربه الكبرى اللام جواب القسم ومن مزيدة انتهى.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٠٨


الصفحة التالية
Icon