واعلم أن الهدى ضد الهوى فلا بد من المتابعة للهدى قال بعض الكبار : ليس لولي كرامة
٢٣٥
إلا بحكم الإرث لمن ورثه من الأنبياء عليهم السلام ولذلك لم يقدر من هو وارث عيسى عليه السلام أن يمشي في الهواء والماء ومن هو وارث لمحمد عليه السلام له المشي على الهواء والماء لعموم مقامه وفي الحديث : لو ازداد عيسى يقيناً لمشي في الهواء أي بموجب قوة يقينية لا بموجب صدق اتباعي ولا نشك أن عيسى عليه السلام أقوى يقيناً من سائر الأولياء الذين يمشون في الهواء بما لا يتقارب فإنه من أولى العزم من الرسل فعلمنا قطعاً إن مشى الولي منا في الهواء إنما هو بحكم صدق التبعية لا بزيادة اليقين على يقين عيسى عليه السلام وعيسى أصدق في تبعيته لمحمد عليه السلام من جميع الأولياء فله القدرة بذلك على المشي على الهواء وإن ترك ذلك من نفسه وبالجملة فلا يمشي في الهواء إلا من ترك الهوى :
هوى وهوس را نماند ستيز
و بيند سر نه عقل تيز
﴿أَمْ لِلانسَـانِ مَا تَمَنَّى﴾ أم منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من بيان إن ما هم عليه غير مستند إلا إلى توهمهم وهوى نفسهم إلى بيان إن ذلك مما لا يجدي نفعاً أصلاً والهمزة للإنكار والنفي والتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها وذلك قد يكون عن تخمين وظن وقد يكون عن رؤية وبناء على أصل لكن لما كان أثره عن تمخمين صار الكذب له أملك فأكثر التمني تصوير ما لا حقيقة له والمعنى ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسه من الأمور التي من جملتها أطماعهم الفارغة في شفاعة الآلهة ونظائرها التي لا تكاد تدخل تحت الوجود :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
وقال الكاشفي : آياهست مر انسان را يعني كافررا آنه آرزو برداز شفاعت بتان يا آنكه كويد را نبوت بفلان وفلان ندادند.
وقيل : أم للإنسان ما اشتهى من طول الحياة وأن لا بعث ولا حشر وفي الآية إشارة إلى أن للإنسان استعداد الكمال وهو الفناء عن أنانيته والبقاء بهوية الله تعالى لكن بسبب اشتغاله باللذات الجسمانية والروحانية يحصل له في بعض الأوقات آفات العلائق الجسمانية وفترات العوائق الروحانية فيحرم من بلوغ مطلوبه ولا يتهيأ له كل ما تمناه إذ كل ميسر لما خلق له فمن خلق مظهر اللطف بيده اليمنى لا يقدر أن يجعل نفسه مظهر القهر ومن خلق مظهر القهر بيده اليسرى لا يمكن أن يجعل نفسه مظهر اللطف :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٠٨
توان اك كردن زنك آينه
وليكن نيايد زسنك آينه
وإنما تمنى لما ليس له مخلوقية على صورة من جمع الضدين بقوله : هو الأول والآخر والظاهر والباطن أي هو الأول في عين آخريته والظاهر في عين باطنيته وسئل الخراز قدس سره : بم عرفت الله؟ قال : بالجمع بين الضدين لأن الحقيقة متوحدة والتعين والظهور متعدد وتنافي التعينات لا يقدح في وحدة الهوية المطلقة كما أن تنافي الزوجية والفردية لا يقدح في العدد وتضاد السواد والبياض لا يقدح في اللون المطلق قال الحسين رحمه الله : الاختيار طلب الربوبية والتمني الخروج من العبودية وسبب عقوبة الله عباده ظفرهم بمنيتهم ﴿فَلِلَّهِ الاخِرَةُ وَالاولَى﴾ تعليل لانتقاء أن يكون للإنسان ما يتمناه حتماً فإن اختصاص أمور الآخرة والأولى جميعاً به
٢٣٦
تعالى مقتض لانتفاء أن يكون له أمر من الأمور.
وفي التأويلات النجمية يشير إلى قهرمانيه الحق تعالى على العالم كله ملكه الأخروي والدنيوي يعني لا يملك الإنسان شيئاً حتى يتمكن من تحصيل ما تتمناه نفسه بل ملك الآخرة تحت تصرف يده اليمنى المقتضية لموجبات حصول الآخرة من الأعمال الصالحة والأفعال الحسنة يهبه بالاسم الواهب لمن يشاء أن يكون مظهر لطفه وجماله وملك الدنيا تحت تصرف يده اليسرى المستدعية لأسباب حصول الدنيا من حب الدنيا الدنية المنتجة للخطيئة ومتابعة النفس الخبيثة وموافقة الطبيعة اللئيمة يجعله باسمه المقسط لمن يشاء أن يكون مظهر صفة قهره وجلاله ولا ذلك يزيد في ملكه ولا هذا ينقص من ملكه وكلتا يده الرحمن ملأى سحاء ﴿وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَـاوَاتِ لا تُغْنِى شَفَـاعَتُهُمْ شَيْـاًا﴾ أقناط لهم مما علقوا به طماعهم من شفاعة الملائكة لهم موجب لأقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق الأولوية وكم خبرية مفيدة للتكثير محلها الرفع على الابتداء والخبر هي الجملة المنفية وجمع الضمير في شفاعتهم مع أفراد الملك باعتبار المعنى أي وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم عند الله شيئاً من الإغناء في وقت من الأوقات أي لا تنفع شيئاً من النفع وهو القليل منه أو شيئاً أي أحداً وليس المعنى أنهم يشفعون فلا تنفع شفاعتهم بل معناه أنهم لا يشفعون لأنه لا يؤذن لهم كما قال تعالى :﴿إِلا مِنا بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ﴾ لهم في الشفاعة ﴿لِمَن يَشَآءُ﴾
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٠٨