زين بيش خشك لب منشين برسراب ريب
﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا﴾ أي فاعرض يا محمد عن دعوة من أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم اليقيني ولم يؤمن به وهو القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين المذكر لأمور الآخرة ولا تتهالك على إسلامه أو عن ذكرنا كما ينبغي فإن ذلك مستتبع لذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمهروب عنها ﴿وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَواةَ الدُّنْيَا﴾ راضياً بها
٢٣٨
قاصراً نظره على جمع حطامها وجلب منافعها فالمراد النهي عن دعوته والاعتناء بشأنه فإن من أعرض عما ذكر وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته وقصارى سعيه لا تزيده الدعوة إلى خلافها إلا عناداً وإصراراً على الباطل والنهي عن الدعوة لا يستلزم نهي الآية بآية القتال بل الإعراض عن الجواب والمناظرة شرط الجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخاً بها فالمعنى أعرض عنهم ولا تشتغل بإقامة الدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به وقاتلهم واقطع دابرهم قال بعضهم : ضع وقته من اشتغل بموعظة طالبي الدنيا والراغبين فيها لأن أحداً لا يقبل على الدنيا إلا بعد الإعراض عن الله :
باسيه دل ه سود كفتن وعظ
نرود ميخ آهنين درسنك
كتاب روح البيان ج٩ متن
الهام رقم ٢٥ من صفحة ٢٣٩ حتى صفحة ٢٤٨
قال ابن الشيخ : اعلم أن النبي عليه السلام كالطبيب للقلوب فأمره الله تعالى في معالجة القلوب بما عليه الأطباء في معالجة المرضى فإن المرض إذا أمكن علاجه بالغذاء لا يستعملون في إزالته الدواء وإذا أمكن إزالته بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القوي والكي فلذلك أمر عليه السلام بالذكر الذي هو غذاء القلوب حيث قالوا : قولوا لا إله إلا الله فإن بذكر الله تطمئن القلوب كما أن بالغذاء تطمئن النفوس فانتفع به بو بكر ومن كان مثله رضي الله عنهم : ومن لم ينتفع بالحمل على الذكر والأمر به ذكر لهم الدليل وقال : أولم يتفكروا قل : انظروا أفلا ينظرون فلما لم ينتفعوا أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينفعهم قال : اعرض عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصالح فقوله : عمن توفى الخ إشارة إلى ما قلنا فإن التولي عن ذكره كناية عن ملزمه الذي هو ترك النظر في دلائل وجوده ووحدته وسائر صفاته وقوله : ولم يرد الخ إشارة إلى إنكارهم الحشر ومن لم يقل بالحشر والحساب لا يخاف ولا يرجع عما هو عليه ترك النظر في دلائل الله لا يعرفه فلا يتبع رسوله فلا ينفعه كلامه فلا يبقى في الدعاء فائدة فلم يبق إلا ترك المعالجة والمسارعة إلى المقاتلة انتهى كلامه.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٠٨
ثم اعلم أن كل ما يبعد البعد عن حضرة سيده فهو من الحياة الدنيا فمن قصد بالزهد والورع والتقى والكشف والكرامات وخوارق العادات قبول الناس والشهرة عندهم وحصول الجاه والمال فهو ممن لم يرد إلا الحياة الدنيا فضاع جميع أحواله وكسد جملة أقواله وأفعاله إذ لا ربح له عند الله ولا ثمرة :
زعمرو اى سر شم اجرت مدار
و درخانه زيد باشى بكار
ولا يغترن هذا بحصول بعض الكشوف وإقبال أهل الدنيا عليه فإنه ثمرة عاجلة له وماله في الآخرة من خلاق ألا ترى أن إبليس عبد الله تعالى تسعة آلاف سنة ثم لما كفر وقال : انظرني إلى يوم يبعثون أمهله الله تعالى فكانت تلك المهلة ثمرة عاجلة له في حياته الدنيوية ﴿ذَالِكَ﴾ أي أمر اردنيا وفي بحرالعلوم أي إرادة الدنيا وإيثارها على الآخرة وفي الإرشاد أي ما أداهم إلى ما هم فيه من التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا ﴿مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ﴾ لا يكادون يجاوزونه إلى غيره حتى يجديهم الدعوة والإرشاد كقوله تعالى : يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون فبلغ اسم مكان وجمع الضمير في مبلغهم باعتباره معنى من كما أن أفراده فيما سبق باعتبار لفظها والمراد بالعلم مطلق الإدراك المنتظم للظن الفاسد
٢٣٩
والجملة اعتراض مقرر لقصر همتهم على الدنيا الدنية التي هي أبغض الخلق إلى الله تعالى بشهادة قوله عليه السلام : إن الله لم يخلق خلقاً هو أبغض إليه من الدنيا وما نظر إليها منذ خلقها بغضاً لها رواه أبو هريرة رضي الله عنه ومعنى هو أن الدنيا على الله سبحانه أنه تعالى لم يجعلها مقصودة لنفسه بل جعلها طريقاً موصلة إلى ما هو المقصود لنفسه ولذلك قال عليه السلام : الدنيا قنطرة فاعبروها لا تعمروها فما ورد من إباحة لعن الدنيا فباعتبار ما كان منها مبعداً عن الله تعالى وشاغلاً عنه كما قال بعض أهل الحقيقة : ما ألهاك عن مولاك فهو دنياك ومشؤوم عليك وأما ما يقرب إلى الله ويعين إلى عبادته فممدوح كما قال عليه السلام : لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر، إن العبد إذا قال : لعن الله الدنيا قالت الدنيا : لعن الله أعصانا لربه.
وفي المثنوي :
يست دنيا از خدا غافل بدن
نى قماش ونقره وميزان وزن
مال را كزبهر دين باشى حمول
نعم مال صالح خواندش رسول
آب در كشتى هلاك كشتى است


الصفحة التالية
Icon