وذلك باطل من وجوه كثيرة أحدها : أن الإنسان ينتفع بدعاء غيره وهو انتفاع بعمل الغير.
والثاني : أن النبي عليه السلام يشفع لأهل الموقف في الحساب ثم لأهل الجنة في دخولها ولأهل الكبائر في الإخراج من النار وهذا الانتفاع بسعي الغير والثالث أن كل نبي وصالح له شفاعة وذلك انتفاع بعمل الغير والرابع أن الملائكة يدعون ويستغفرون لمن في الأرض وذلك منفعة بعمل الغير والخامس أن الله تعالى يخرج من النار من لم يعمل خيراً قط بمحض رحمته وهذا انتفاع بغير عملهم والسادس أن أولاد المؤمنين يدخلون الجنة بعمل آبائهم وذلك انتفاع بمحض عمل الغير وكذا الميت بالصدقة عنه وبالعتق بنص السنة والإجماع وهو من عمل غيره وأن الحج المفروض يسقط عن الميت بحج وليه عنه بنص السنة وكذا تبرأ ذمة الإنسان من ديون الخلق إذا قضاها عنه قاض كما قال الشافعي : إذا أنا مت فليغسلني فلان أي من الدين وذلك انتفاع بعمل الغير وكذا من عليه تبعات ومظالم إذا حلل منها سقطت عنه وأن الجار الصالح ينتفع بجواره في الحياة والممات كما جاء في الأثر وأن جليس أهل الذكر يرحم بهم وهو لم يكن منهم ولم يجلس معهم لذلك بل لحاجة أخرى والأعمال بالنيات وكذا الصلاة على الميت والدعاء له فيها ينتفع بها الميت مع أن جميع ذلك انتفاع بعمل الغير ونظائر ذلك كثيرة لا تحصى والآيات الدالة على مضاعفة الثواب كثيرة أيضاف فلا بد من توجيه قوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فإنه لاشتماله على النفس والاستثناء يدل على أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمل نفسه ولا يجزى على عمله ألا يقدر سعيه ولا يزداد وهو يخالف الأقوال الواردة في انتفاعه بعمل غيره وفي مضاعفة ثواب أعماله ولا يصح أن يؤول بما يخالف صريح الكتاب والسنة وإجماع الأمة فأجابوا عنه بوجوه : منها أنه منسوخ ومنها أنه في حق الكافر ومنها أنه بالنسبة إلى العدل لا الفضل وقد ذكرت ومنها أن الإنسان إنما ينتفع بعمل غيره إذا نوى الغير أن يعمل له حيث صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعاً فكان سعي الغير بذلك كأنه سعيه وأيضاً إن سعى الغير إنما لم ينفعه إذا لم يوجد له سعي قط فإذا وجد له سعي بأن يكون مؤمناً صالحاً كان سعي الغير تابعاً لسعيه فكأنه سعى بنفسه فإن علقة الإيمان وصلة وقرابة كما قال عليه السلام مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وقال عليه السلام : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ثم شبك بين أصابعه فإذا سعى أحد في الإيمان والعمل الصالح فكأنه سعى بتأييد عضو أخيه وسد ثلمته فكان سعيه سعيه والحاصل أنه لما كان مناط منفعة كل ما ذكر من الفوائد عمله الذي هو الإيمان والصالح ولم يكن لشيء منه نفع ما بدونهما جعل النافع نفس عمله وإن كان بانضمام غيره إليه وفي أول باب الحج عن الغير من الهداية الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوماً أو صدقة أو غيرها عند أهل السنة والجماعة وفي فتح الرحمن واختلف الأئمة فيما يفعل من القرب كالصلاة والصيام وقراءة القرآن والصدقة ويهدي ثوابه للميثت المسلم فقال أبو حنيفة وأحمد يصل ذلك إليه ويحصل له نفعه بكرم الله ورحمته وقال مالك والشافعي : يجوز ذلك في الصدقة والعبادة
٢٤٩
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٠٨
المالية وفي الحج وأما غير ذلك من الطاعات كالصلاة والصوم وقراءة القرآن وغيره لا يجوز ويكون ثوابه لفاعله وعند المعتزلة ليس للإنسان جعل ثواب عمله مطلقاً لغيره ولا يصل إليه ولا ينفعه لقوله تعالى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ولأن الثواب الجنة وليس في قدرة العبد أن يجعلها لنفسه فضلاً عن غيره واختلفوا فيمن مات قبل أن يحج فقال أبو حنيفة ومالك يسقط عنه الحج بالموت ولا يلزم الحج عنه إلا أن يوصى بذلك وقال الشافعي واحمد لا يسقط عنه ويلزم الحج عنه من رأس ماله واختلفوا فيمن لم يحج عن نفسه هل يصح أن يحج عن غيره فقال أبو حنيفة ومالك يصح ويجزي عن الغير مع الكراهة وقال الشافعي وأحمد : لا يصح ولو فعل وقع عن نفسه وأما الصلاة فهي عبادة بدنية لا تصح فيها النيابة بمال ولا بدن بالاتفاق وعند أبي حنيفة إذا مات وعليه صلوات يعطي لكل صلاة نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير أو قيمة ذلك فدية تصرف للمساكين وليس للمدفوع إليه عدد مخصوص فيجوز أن يدفع لمسكين واحد الفدية عن عدة صلوات ولا يجوز أن تدفع فدية صلاة لأكثر من مسكين ثم لا بد من الإيصاء بذلك فلو تبرع الورثة بذلك جاز من غير لزوم وذلك عند أبي حنيفة خلافاً للثلاثة.
ـ وروي ـ أن رجلاً سأل النبي عليه السلام فقال : كان لي أبوان أبرهما حال حياتهما فكيف أبرهما بعد موتهما؟ فقال : إن من البر بعد الموت أن تصلي لهما مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك رواه الدارقطني عن علي رضي الله عنه وهذا الحديث حجة لأبي حنيفة في تجويزه جعل العبادة البدنية أيضاً لغيره خلافاً للشافعي كما مر.


الصفحة التالية
Icon