﴿وَأَنَّه هُوَ أَغْنَى﴾ أعطى الغنى للناس بالأموال ﴿وَأَقْنَى﴾ وأعطى القنية وهي ما يتأثل من الأموال أي يتخذ أصلاً ويدخر بأن يقصد حفظه استثماراً واستنماء وأن لا يخرج عن ملكه وفي المثل لا تقتن من كلب سوء جرواً يقال قنوت الغنم وغيرها وقنيتها قنية وقنية إذا اقتنيتها لنفسك لا للتجارة وفي تاج المصادر الإقناء سرمايه دادن وخشنود كردن.
قال بعضهم : أغنى الناس بالكفاية والأموال وأعطى القنية وما يدخرونه بعد الكفاية وقال الضحاك : أغنى بالذهب والفضة والثياب والمسكن وأقنى بالإبل والبقر والغنم والدواب وأفراد القنية بالذكر أي بعد قوله أغني لأنها أشرف الأموال وأفضلها أو معنى أقنى أرضى وتحقيقه جعل الرضى له قنية والأوفق لما تقدمه من الآي المشتملة على مراعاة صنعة الطباق أن يحمل على معنى أفقر على أن تكون الهمزة أي في أقنى للإزالة كما قاله سعدي المفتي قال الجنيد قدس سره : أغنى قوماً به وأفقر قوماً منه وقال بعضهم : فيه إشارة إلى إفاضة الفيض الإلهي على القلب السليم المستقيم الثابت على دين الله كما قال عليه السلام : اللهم ثبت قلبي على دينك وإبقاء ذلك الفيض الإلهي عليه بحيث لا يستهلك الفيض ولا يضمحل تحت غلبة ظلمة النفس الإمارة بالسوء لتمكن ذلك القلب وعدم تلونه بخلاف القلب المتلون فإنه لعدم تمكنه في بعض الأوقات يتكدر بظلمة النفس ويزول عنه ذلك النور المفاض عليه المضاف إليه وهو المعنى بقوله : أقنى أي جعل فيه ذلك النور قنية ثم إن الآية دلت على إباحة التأثل من الأموال النافعة دون غيرها ولذا نهى عن اقتناء الكبب أي إمساكه بلا فائدة من جهة حفظ الزرغ أو الضرع أو نحو ذلك والنفس الأمارة أشد من الكلب العقوب ففي اقتناى الروح النامي مندوحة عن اقتنائها أبتر عقيم لا خير فيها
٢٥٦
ألا ترى أن مرتبة النفس والطبيعة تبقى هنا ولا نستصحب الإنسان الكامل في النشأة الجنانية إذ الجنان كالمرعى الطيب والروض الأنف فلا يرعى فيها إلا الروح الطيب والجسد النظيف ﴿وَأَنَّه هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى﴾ أي رب معبودهم فاعبدوا الرب دون المربوب والشعرى كوكب نير خلف الجوزاء يقال لها العبور بالمهملة كالصبور وهي أشد ضياء من الغميصاء بالغين المعجمة المضمومة وفتح الميم والصاد المهملة وهي إحدى الشعريين يعني أن الشعرى شعريان أحدهما الشعرى اليمانية وتسمى أيضاً الشعر العبور وثانيتهما الشعرى الشامية وتسمى أيضاً الشعرى الغميصاء فصلت المجرة بينهما تزعم العرب أن الشعريين اختا سهيل وأن الثلاثة كانت مجتمعة فانحدر سهيل نحو اليمين وتبعته العبور فعبرت المجرة ولقيت سهيلاً وأقامت الغميصاء فبكت لغقد سهيل فغمصت عينها أي كانت أقل نوراً من العبور وأخفى والغمض في العين ما سال من الرمص يقال : غمصت عينه بالكسر غمصاً وكانت خزاعة تعبد الشعرى سن لهم ذلك أبو كبشة رجل من أشرافهم فقال لقومه : إن النجوم تقطع السماء عرضاً وهذه تقطعها طولاً فليس شيء مثلها فعبدتها خزاعة وخالف أبو كبشة قريشاً في عبادة الأوثان ولذلك كانت قريش يسمون الرسول عليه السلام ابن أبي كبشة لا يريدون بذلك اتصال نسبه ءليه وإن كان الأمر كذلك أي لأن أبا كبشة أحد أجداد النبي عليه السلام من قبل أمه بل يريدون به موافقته عليه السلام له في ترك عبادة الأوثان وإحداث دين جديد فالنبي عليه السلام كما وافق أبا كبشة في مخالفة قريش بترك عبادة الأصنام خالفه أيضاً بترك عبادة الشعرى وهو إشارة إلى شعرى النفس المسماة بكلب الجبار التي عبدها خزاعة أهل الأهواء وأبو كبشة أهل البدع من الفلاسفة والزنادقة
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٠٨


الصفحة التالية
Icon