﴿فَدَعَا رَبَّهُ﴾ أي لما زجروا نوحاً عن الدعوة وبلغ مدة التبليغ تسعمائة وخمسين سنة دعا ربه ﴿أَنِّى﴾ أي بأني ﴿مَغْلُوبٌ﴾ من جهة قومي مالي قدرة على الانتقام منهم ﴿فَانتَصِرْ﴾ أي فانتقم لي منهم وذلك بعد تقرر بأسه منهم بعد الليتا والتي فقد روي أن الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشياً فيفيق ويقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون فلما أذن الله له في الدعاء للإهلاك دعا فأجيب كما قال في الصفات ولقد نادانا نوح فلنعم المجسبون ﴿فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ﴾ أي طرقها وبالفارسية س بكشاديم براى عذاب ايشان درهاء آسمانرا ازطرف مجره كما قال علي رضي الله عنه ﴿بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ﴾ الهمر صب الدمع والماء يقال همره يهمره ويهمره صب نهمر هو وانهمر أي انسكب وسال والمعنى بماء كثير منصب انصباباً شديداً كما ينصب من أفواه القرب لم ينقطع أربعين يوماً وكان مثل الثلج بياضاً وبرداً وهو تمثيل لكثرة الأمطار وشدة انصبابها سواء جعل الباء في قوله بماء للاستعانة وجعل الماء كالآلة لفتح أبواب السماء وهو ظاهر أو للملابسة ﴿وَفَجَّرْنَا الارْضَ عُيُونًا﴾ أي جعلنا الأرض كلها كأنها عيون منفجرة أي جارية وكان ماء الأرض مثل الحميم حرارة وأصله وفجرنا عيون الأرض فغير عن المفعولية إلى التمييز قضاء لحق المقام من المبالغة لأن قولنا فجرنا عيون الأرض يكفي في صحة تفجر ما فيها من العيون ولا مبالغة فيه بخلاف فجرنا الأرض عيوناً فإن معناه فجرنا أجزاء الأرض كلها بجعلها عيون الماء ولا شك في أنه أبلغ ﴿فَالْتَقَى الْمَآءُ﴾ أي ماء السماء وماء الأرض وارتفع على أعلى جبل في الأرض ثمانين ذراعاً والأفراد حيث لم يقل الماآن لتحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة والتقارب بل بطريق الاختلاط والاتحاد ﴿عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ أي كائناً على حال قد قدره الله من غير تفاوت أو على حالة قدرت وسويت وهو إن قدر ما أنزل من السماء على قدر ما أخرج من الأرض أو على أمر قدره الله وهو هلاك قوم نوح بالطوفان فكلمة على على هذا للتعليل.
يقول الفقير : إنما وقع العذاب بالطوفان العام لأن الماء إشارة إلى العلم فلما لم ينتفع بعلم نوح عليه السلام في المدة الطويلة ولم تغرق أرواحهم فيه أخذوا بالماء حتى غرقت أجسادهم وتأثير الطوفان يظهر في كل ثلاثين سنة مرة واحدة لكن على الخفة فيقع مطر كثير ويغرق بعض القرى والبيوت من السيل ﴿وَحَمَلْنَـاهُ﴾ أي نوحاً ومن آمن معه ﴿عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ﴾ أي سفينة صاحبة أخشاب عريضة فإن الألواح جمع لوح وهو كل صحيفة عريضة خشباً أو عظماً وكانت سفينة نوح من ساج وهو شجر عظيم ينبت في أرض الهند أو من خشب شمشاد ويقال من الجوز ﴿وَدُسُرٍ﴾ ومسامير جمع دسار من الدسر وهو الدفع الشديد بقهر يقال دسره بالرمح.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٦٢
ـ وروي ـ أنه ليس في العنبر زكاة إنما هو شيء دسره البحر سمي به المسمار لأنه يدسر به منفذه أي يدفع قال في عين المعاني دسرت بها السفينة أي شدت أو لأنها تدسر أي تدفع بالدق فقوله ذات ألواح ودسر صفة للسفينة أقيمت مقامها
٢٧٢
بأنها يكنى بها عنها كما يكنى عن الإنسان بقولهم هو مستوى القامة عريض الأظفار ﴿تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا﴾ أي تجري السفينة وتسير بمرأى منا أي محفوظة بحفظنا ومنه قولهم للمودع عين الله عليك وقيل بأوليائنا يقال مات عين من عيون الله أي ولي من أوليائه ﴿جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ﴾ مفعول له لما ذكر من فتح أبواب السماء وما بعده وكفر من كفران النعمة أي فعلنا ذلك المذكور أجراً وثواباً لنوح لأنه كان نعمة كفروها فإن كل نبي نعمة من الله على أمته ورحمة أي نعمة ورحمة فكان نوح نعمة مكفورة ومن هذا المعنى ما حكى أن رجلاً قال للرشيد : الحمدعليك فقال : ما معنى هذا الكلام؟ فقال : أنت نعمة حمدت الله عليها ﴿وَلَقَد تَّرَكْنَـاهَآ﴾ أي السفينة ﴿ءَايَةً﴾ يعتبر بها من يقف على خبرها وقال قتادة : أبقاها الله بياقردى من بلاد الجزية وقيل على الجودي دهراً طويلاً حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة وكم من سفينة كانت بعد قد صارت رماداً وفي تفسير أبي الليث قال بعضهم : يعني أن تلك السفينة كانت باقية على الجبل قريباً من خروج النبي عليه السلام وقيل : بقيت خشبة من سفينة نوح هي في الكعبة الآن وهي ساجة غرست حتى ترعرعت أربعين سنة ثم قطعت فتركت حتى يبست أربعين سنة وقيل : بقي بعض خشبها على الجودي إلى هذه الأوقات.