النفس الأمارة بالسوء ومعاملتها مع نذير القلب فإنه يدعوها إلى الانسلاخ عن الصفات البشرية والتلبس بالصفات الروحانية وهي تدعى المجانسة معه إذ النفس والروح بل النفس أخت القلب من جانب أيسر البطن وكذا تدعى تقدم رتبتها على القلب وتصرفها في القالب وما يحتوي عليه من القوى البشرية والطبيعية وتأخر رتبة القلب لأنه حصل بعد ازدواج الروح مع النفس فبسبب تقدم رتبة النفس على القلب استنكفت النفس عن اتباعه وامتثال لأوامره وما عرفت أن تقدم الشرف والحسب أعلى وأفضل من تقدم الشرف والنسب ولذا قالت الحكماء توانكرى بهنرست نه بمال وبزركى بعقلست نه بسال وقال بعضهم :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٦٢
وما ينفع الأصل من هاشم
إذا كانت النفس من باهله
وهي قبيلة عرفت بالدناءة والخساسة جداً فخطأت النفس نذير القلب مع أن الخاطئة نفسها وامتحنته بإخراج الناقة وذلك أن حقيقة النفس واحدة غير متعددة لكن بحسب توارد الصفات المختلفة عليها تسمى بالأسماء المختلفة فإذا توجهت إلى الحق توجهاً كلياً تسمى بالمطمئنة وإذا توجهت إلى الطبيعة البشرية توجهاً كلياً تسمى بالأمارة وإذا توجهت إلى الحق تارة وإلى الطبيعة أخرى تسمى اللوامة فثمود النفس الأمارة طلبت على جهة المكر والاستكبار من صالح رسول القلب المرسل من حضرة الروح أن يظهر ناقة النفس المطمئنة من شاهق جبل النفس الأمارة بأن يبدل صفتها من الأمارية إلى الاطمئنان فسأل صالح رسول القلب من حضرة الروح مسؤولها فأجابته إظهاراً للقدرة والحكمة حتى غلبت أنوار الروح وانطمست ظلمة النفس كما ينطمس عند طلوع الشمس ظلام الليل وكان للنفس المطمئنة شرب خاص من المعارف والحقائق كما كان للنفس الأمارة شرب خاص من المشارب الجسمانية فنادى الهوى وأهوانه بعضهم بعضاً باستخلاص النفس الأمارة من استيلاء نور الروح عليها مخافة أن ينغمس الهوى أيضاً تحت هذا النور فتعاطى بعض أصحاب الهوى ذلك وكانت النفس الأمارة ما تمكنت في مقام الاطمئنان تمكناً مستحكماً بحيث لا تتأثر بل كان لها بقية تلوين فقتلوها بإبطال طمأنينتها فرجعت القهقرى فانقهرت النفس والهوى تحت صيحة القهر وصارت متلاشية في حضرة القهر والخذلان محترقة بنار القطيعة والهجران كما قال فكيف كان عذابي ونذر فمن كان أهل الذكر والقرآن أي الشهود الجمعي يعتبر بهذا الفراق ويجتهد إلى أن يصل إلى نهاية الاطمئنان على الإطلاق فإن النفس وءن تبدلت صفتها الأمارية إلى المطمئنة لا يؤمن مكرها وتبدلها من المطمئنة إلى الأمارية ولو وكلت إلى نفسها طرفة عين لعادت المشؤومة إلى طبعها وجبلتها كما كان حال بلعام وبرصيصا ولذا قال عليه السلام : لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك وقال الجنيد قدس سره : لا تألف النفس الحق أبداً ألا نرى أن الذمي وإن قبل الخراج فإنه لا يألف المسلم الفة مسلم وفرخ الغراب وأن ربي من الصغر وعلم فإنه لا يخلو من التوحش فالنفس ليست بأهل الاصطناع والمعروف والملاطفة أبداً وإنما شأنها تضييقها ومجاهدتها ورياضتها إلى مفارقة الروح من الجسد.
ولذا قال في المثنوي :
٢٧٩
اندرين ره مى خراش ومى تراش
تادم آخر دمى فارغ مباش
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٦٢
ومنه يعلم سر قولهم إن ورد الاستغفار لا يسقط بحال ولذا قال تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره مع ظهور الفتح المطلق نسأل الله تعالى أن يجعلنا من العلماء العاملين والأدباء الكاملين بسر النبي الأمين ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطا بِالنُّذُرِ﴾ أي بالإنذارات أو بالمنذرين كما سبق ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا﴾ أي ريحاً تحصبهم أي ترميم بالحصباء وهي حجارة دون ملىء الكف فالحصب الرمي بالحصى الصغار ومنه المحصب موضع الجمار وقول عمر رضي الله عنه حصبوا المسجد والحاصب اسم فاعل بمعنى رامى الحصباء وتذكيره مع إسناده إلى ضمير الريح وهي مؤنث سماعي لتأويلها بالعذاب.


الصفحة التالية
Icon