وخص المؤمنين بالعفو في الآخرة وبالفارسية خداوند بخشايش بسياركه رحمت او همه يز را رسيده.
والرحمة في الحقيقة العف والعنو أعني الميل الروحاني ومنه الرحم لانعطافها الحسي على ما فيها وأريد بها بالنسبة إلى الله تعالى إرادة الخير أو الإنعام لأن عطف على أحد أصابه بأحدهما قال الإمام الغزالي رحمه الله : الرحمن هو العطوف على العباد بالإيجاد أولاً وبالهداية إلى الإيمان وأسباب السعادة ثانياً والإسعاد بالآخرة ثالثاً والإنعام بالنظر إلى وجه الكريم رابعاً انتهى.
ولما كانت هذه السورة الكاملة شاملة لتعداد النعم الدنيوية والأخروية والجسمانية والروحانية طرزها بطراز اسم الرحمن الذي هو اسم الذات المشتمل على جميع الأسماء والصفات ليسند إليه النعم المختلفة بعده ولما كان القرآن أعظم النعم شأناً لأنه مدار جميع السعادات ولذا قال عليه السلام : أشراف أمتي حملة القرآن أي ملازموا قراءته وأصحاب الليل وقال : خيركم من تعلم القرآن وعلمه وفيه جميع حقائق الكتب السماوية وكان تعليمه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها بدأبه فقال :﴿عَلَّمَ﴾ محمداً صلى الله عليه وسلّم ﴿الْقُرْءَانَ﴾ بواسطة جبريل عليه السلام وبواسطة محمد عليه السلام غيره من الأمة.
قال الكاشفي : يعني آسان كردانيده مراورا آموختن وديكر انرا آموزانيدن.
قال ابن عطاء رحمه الله : لما قال الله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها أراد أن يخص أمة محمد بخاصة مثله فقال : الرحمن علم القرآن أي الذي علم آدم الأسماء وفضله بها على الملائكة هو الذي علمكم القرآن وفضلكم به على سائر الأمم فقيل له : متى علمهم؟ قال : علمهم حقيقة في الأزل وأظهر لهم تعليمه وقت الإيجاد وفيه إشارة إلى أن تعليم القرآن وإن كان في الصورة بواسطة جبريل من الوجه العام لكنه كان بلا واسطة في المعنى من الوجه الخاص على ما سيزيد وضوحاً في محله إن شاء الله تعالى وقال بعضهم : علم القرآن أي أعطى الاستعداد الكامل في الأزل لجميع المستعدين ولذلك قال : علم القرآن ولم يقل علم الفرقان كما في قوله تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان فإن الكلام الإلهي قرآن باعتبار الجمع والبداية وفرقان باعتبار الفرق والنهاية فهو بهذا العنى لا يتوقف على خلق الإنسان وظهوره في هذا العالم وإنما الموقوف عليه تعليم البيان ولذا قدم تعليم القرآن على خلق الإنسان وخلقه على تعليم البيان انتهى وفي الآية إشارة إلى أن التعليم والتسهيل إنما هو من الله تعالى لا من المعلمين والحافظين وقد علم آدم الأسماء ووفقه لتعلمها وسهله بإذنه وعلم داود صنعة الدرع كما قال وعلمناه صنعة لبوس لكم وعلم عيسى علم الطب كما قال ويعلمه الكتاب والحكمة وعلم الخضر العلم اللدني كما قال وعلمناه من لدنا علماً
٢٨٨
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٨٨
وعلم نبينا عليه السلام القرآن وأسرار الألوهية كما قال : وعلمك ما لم تكن تعلم وعلم الإنسان البيان قال في فتح الرحمن : ومن الدليل على أن القرآن غير مخلوق إن الله تعالى ذكره في كتابه العزيز في أربعة وخمسين موضعاً ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق ولا أشار إليه وذكر الإنسان في ثمانية عشر موضعاً كلها يدل على خلقه وقد اقترنا في هذه السورة على هذا النحو قاله المولى أبو السعود رحمه الله ثم قيل :﴿خَلَقَ الانسَـانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ تبييناً للمعلم وكيفية التعليم والمراد بخلق الإنسان إنشاؤه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة والبيان هو التعبير عما في الضمير قال الراغب : البيان الكشف عن الشيء وهو أعم من النطق لأن النطق مختص بالإنسان وسمي الكلام بياناً لكشفه عن المعنى المقصود وإظهاره انتهى وليس المراد بتعليمه مجرد تمكين الإنسان من بيان نفسه بل منه ومن فهم بيان غيره أيضاً إذ هو الذي يدور عليه تعليم القرآن والمراد به جنس الإنسان الشامل لجميع أصنافه وأفراده وفي بحر العلوم خلق الإنسان أي آدم وعلمه الأسماء واللغات كلها وكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية انتهى.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٨٨


الصفحة التالية
Icon