نزلت كل نفس ذائقة الموت أيقنوا بهلاك أنفسهم فإن لهم أجساماً لطيفة وأرواحاً متعلقة بتلك الأجسام كأرواح الإنسان وأما الأرواح المجردة المهيمة العالية فلا تفنى ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ أي ذاته ومنه كرم الله وجهه أي ذاته فالوجه العضو المعروف استعير للذات لأنه أشرف الأعضاء ومجمع المشاعر وموضع السجود ومظهر آثار الخشوع قال القاضي : لو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله الذي يلي جهته انتهى قال سعدي المفتي في حاشية هذا المحل إشارة إلى وجه آخر وهو أن يكون الوجه بمعنى القصد أي ما يقصد وينوي به الله والجهات بمعنى المقاصد وفي العبارة نوع تسامح وقوله يلي جهته أي مقصده والإضافة للبيان أي يتوجه إليه انتهى وقال ابن الشيخ إشارة إلى أن الوجه يجوز أن يكون كناية عن الجهة بناء على أن كل جهة لا تخلو عن وجهه يتوجه إليها كما ذكر في قوله في جنب الله أي كل من عليها من الثقلين وأما اكتسبوه من الأعمال هالك إلا ما توجهوا به جهة الله وعملوه ابتغاء لمرضاته انتهى وقال الشيخ ابن نور الدين رحمه الله الماهيات تنقسم إلى ثلاثة أقسام : واجب الموجود وممتنع الموجود وممكن الوجود أما الواجب فهو وجود بحت وأما الممتنع فهو عدم محض وأما الممكن فهو مركب منهما وذلك لأن له وجوداً وماهية عارضة على وجوده فماهيته أمر اعتباري معدوم في الخارج لا يقبل الوجود فيه من حيث هو هو ووجوده موجود لا يقبل العدم من حيث هو هو فكان الممكن موجوداً ومخلوقاً من وجود وعدم وهذه الجمعية تقبل الوجود والعدم ومن هذا ظهر حقيقة ما قال البيضاوي ولو استقريت الخ وما قاله الشيخ الأكبر قدس سره الأطهر في تفسير قوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه حيث قال الضمير راجع إلى الشيء انتهى
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٨٨
﴿ذُو الْجَلَـالِ وَالاكْرَامِ﴾ صفة وجه أي ذو الاستغناء المطلق أو العظمة في ذاته وصفاته وذو الفضل التام وهذه من عظائم صفاته تعالى ولقد قال عليه السلام : ألظوا بياذا الجلال والإكرام.
يعني ملازم بكوبيد ياذا الجلال والإكرام وفي تاج المصادر الألظاظ ملازم كرفتن ودائم شدن باران.
والإلحاح أيضاً وفي القاموس اللظ اللزوم والإلحاح وعنه عليه السلام أنه مر برجل وهو يصلي ويقول : يذا الجلال والإكرام فقال : استجيب لك الدعاء فالدعاء بهاتين الكلمتين مرجو الإجابة وفي وصفه تعالى بذلك بعد ذكر فناء الخلق وبقائه تعالى إيذان بأنه تعالى يفيض عليهم بعد فنائهم أيضاً آثار لطفه وكرمه حسبما ينبىء عنه قوله تعالى :﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ فإن إحياءهم بالحياة الأبدية وإثابتهم بالنعيم المقيم أجل النعماء وأعظم الآلاء قال الطبيب : كيف أفرد الضمير في قوله وجه ربك وثناه في ربكما والمخاطب واحد قلت : اقتضى الأول تعميم الخطاب لكل من يصلح للخطاب لعظم الأمر وفخامته فيندرج فيه الثقلان اندراجاً أولياً ولا كذلك الثاني فتركه على ظاهره وفي قوله كل من عليها فان إشارة إلى فناء كل من على الأرض البشرية إما بالموت الطبيعي منغمساً في بحر الشهوات الحيوانية واللذات الجسمانية وإما بالموت الإرادي منسلخاً عن الصفات البشرية ملتبساً بالصفات الروحانية وتغليب من إشارة إلى ذوي العقول السليمة عن آفات
٢٩٨
القوة الوهمية والخيالية فإنهم بذكاء فطرتهم وبقاء طينتهم يفنون عن الأحكام الطبيعية ويبقون بالتجليات الإلهية وبقوله ويبقى وجه الخ إشارة إلى فناء الكثرة النسبية الأسمائية وبقاء الوحدة الحقيقية الذاتية الموصوفة بالصفة الجلالية القهرية والجمالية اللطفية فبأي آلاء ربكما تكذبان مما ذكرنا من إفناء الحياة المجازية وإبقاء الحياة الحقيقية وإظهار الصفة اللطفية في حق مستحقي اللطف وإظهار الصفة القهرية في حق مستحقي القهر لعلمه المحيط باستحقاقها وقال بعضهم : لو نظرت بنظر التحقيق في الكون وأهله لرأيت حقيقة فنائه وفناء أهله وإن كان في الظاهر على رسم الوجود لأن من يكون قيامه بغيره فهو فان في الحقيقية إذ لا يقوم بنفسه ولا نفس له في الحقيقية فإن الوجود الحقيقي وجود القدم لذلك أثنى على نفسه بقوله ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
قال الشيخ المغربي :
سايه هستى مينمايد ليك اندر اصل نيست
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٨٨
نيست را ازهست بشناختى يابى نجات
وقال المولى الجامي :
تو درميانه هي نه هره هست اوست
هم خود الست كويد وهم خود بلى كند
وفي ذكر وجهه الباقي تسلية لقلوب العشاق أي أنا أبقى لكم أبداً لا تغتموا فإن لكم ما وجدتم في الدنيا من كشف جمالي ويتسرمد ذلك لكم بلا حجاب أبداً وفي ذكر الجلال تهييج لأهل المحبة والهيبة وفي كاف الوحدة إشارة إلى حبيبه عليه السلام يعني كشف الوجه باق لك أبداً أريتك وجهي خاصة ثم العشاق اتباع لك في النظر إلى وجهي فأول الكشف لك ثم للعموم.