الثقل والخفة متقابلان وكل ما يترجح على ما يوزن به أو يقدر به يقال هو ثقيل وأصله في الأجسام ثم يقال في المعاني أثقله الغرم والوزر انتهى والمراد هنا الإنس والجن سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض يعني أنهما شبها بثقلى الدابة وفي حواشي ابن الشيخ شبه الأرض بالحمولة التي تحمل الأثقال والإنس والجن جعلا أثقالاً محمولة عليها وجعل ما سواهما كالاعلاوة أو الرزانة آرائها أو لأنهما مثقلان بالتكليف أو لعظم قدرهما في الأرض كما في الحديث "إني خلفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي" وقال الصادق رضي الله عنه سيما ثقلين لأنهما يثقلان بالذنور أو لما فيهما من الثقل وهو عين تأخرهما بالوجود لأن من عادة الثقيل الإبطاء كما أن من عادة الخفيف الإسراع والانس أثقل من الجن للركن الأغلب عليهم ﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا﴾ التي من جملتها التنبيه على ما سيلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب ﴿تُكَذِّبَانِ﴾ بأقوالكما وأعمالكما قال في كشف الأسرار : اعلم أن بعض هذه السورة ذكر فيه الشدائد والعذاب والنار والنعمة فيها من وجهين أحدهما في صرفها عن المؤمنين إلى الكفار وتلك النعمة عظيمة تقتضي شكراً عظيماً والثاني أن في التخويف منها والتنبيه عليها نعمة عظيمة لأن اجتهاد الإنسان رهبة مما يؤلمه أكثر من اجتهاده رغبة فيما ينعمه
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٨٨
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالانسِ} هما الثقلان خوطبا باسم جنسهما لزيادة التقرير ولأن الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة فخوطبوا بما ينبىء عن ذلك لبيان أن قدرتهم لا تفي بما كلفوه والمعشر الجماعة العظيمة سميت به لبلوغه غاية الكثرة فإن العشر هو العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلا بتركيبه بما فيه من الآحاد تقول أحد عشر واثنا عشر وعشرون وثلاثون أي اثنتا عشرات وثلاث عشرات فإذا قيل معشر فكأنه قيل محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة وقدم الجن على الإنس في هذها لآية لتقدم خلقه والإنس على الجن في قوله تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس والجن لفضله فإن التقديم يقتضي الأفضلية قال ابن الشيخ لما بين الله تعالى أنه سيجيء وقت يتجرد فيه لمحاسبتهم ومجازاتهم وهددهم بما يدل على شدة اهتمامه بها كان مظنة أن يقال فلم ذلك مع ماله من كمال الاهتمام به فأشار إلى جوابه بما محصوله أنهم جميعاً في قبضة قدرته وتصرفه لا يفوته منهم أحد فلم يتحقق باعث يبعثه على الاستعجال لأن ما يبعث المستعجل إنما هو خوف الفوت وحيث لم يخف ذلك قسم الدهر كله إلى قسمين : أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة وجعل المدة الأولى أيام التكليف والابتلاء والمدة الثانية للحساب والجواء وجعل كل واحدة من الدارين محل الرزايا والمصائب ومنبع البلايا والنوائب ولم يجعل لواحد من الثقلين سبيلاً للفرار منهما والهرب مما قضاه فيهما فقوله : يا معشر الجن متعلق بقوله سنفرغ لكم فكانا بمنزلة كلام واحد ﴿إِنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ لم يقل إن استعطتما لأن كل واحد منهما فريق كقولهم فإذا هم فريقان يختصمون أي كل فريق منهم يختصم فجمع الضمير هنا نظراً إلى معنى الثقلين وثناه في قوله يرسل عليكما كما سيأتي نظراً إلى اللفظ أي إن قدرتم على ﴿أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ﴾ قال في القاموس : النفاذ جواز الشيء عن الشيء والخلوص منه كالنفوذ
٣٠١
ومخالطة السهم جوف الرمية وخروج طرفه من الشق الآخر وسائره فيه كالنفذ ونفذهم جازهم وتخلفهم كأنفذهم والنافذ الماضي في جميع أموره انتهى والأقطار جمع قطر بالضم وهو الجانب والمعنى أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من الله فارين من قضائه ﴿فَانفُذُوا﴾ فاخرجوا منها وخلصوا أنفسكم من عقابي وهو أمر تعجيز والمراد أنهم لا يفوتونه ولا يعجزونه حتى لا يقدر عليهم ﴿لا تَنفُذُونَ﴾ لا تقدرون على النفوذ ﴿إِلا بِسُلْطَـانٍ﴾ أي بقوة وقهر وأنتم من ذلك بمعزل بعيد.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٨٨