ـ روي ـ أن الملائكة تنزل فتحيط بجميع الخلائق فيهرب الإنس والجن فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة أحاطت به فتقول لهم الملائكة ذلك فكما لا يقدر أحد على الفرار يوم القيامة كذلك لا يقدر في الدنيا فيدركه الموت والقضاء لا محالة ﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة على العقوبة ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ﴾ هو لهب خالص لا دخان فيه أو دخان النار وحرها كما في القاموس قال سعدي المفتي : والله أعلم أنها استئناف جواباً عن سؤال الداعي إلى الهرب والفرار وإن ذلك حين يساق إلى المحشر كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أي يرسل عليكما لهب بلا دخان ليسوقكم إلى المحشر ﴿مِّن نَّارٍ﴾ متعلق بيرسل والتنوين فيهما للتفخيم ﴿وَنُحَاسٌ﴾ أي دخان أو صفر مذاب يصب على رؤوسهم وفي المفردات النحاس اللهب بلا دخان وذلك تشبيه في اللون بالنحاس وفي القاموس النحاس مثلثة عن أبي العباس الكواشي القطر والنار وما سقط من شرار الصفر أو الحديد إذا طرق ﴿فَلا تَنتَصِرَانِ﴾ ألا لا تمنعان من ذلك العذاب ﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ من بيان عاقبة الكفر والمعاصي والتحذير عنها فإنها لطف ونعمة أي لطف ونعمة ﴿فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ﴾ أي انصدعت يوم القيامة وانفك بعضها من بعض لقيام الساعة أو انفرجت فصارت أبواباً لنزول الملائكة كقوله تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً وفي الخبر من نار جهنم إذا كشف عنها ﴿فَكَانَتْ وَرْدَةً﴾ كوردة حمراء في اللون وهي الزهرة المعروفة التي تشم والغالب على الورد الحمرة قال :
ولو كنت ورداً لونه لعشقتني
ولكن ربي شانني بسواديا
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٨٨
وقيل لأن أصل لون السماء الحمرة وإنما ترى زرقاء للعبد والحوائل ولان لون النار إذا خالط الأزرق كساه حمرة ﴿كَالدِّهَانِ﴾ خبر ثان لكانت أي كدهن الزيت فكانت في حمرة الوردة وفي جريان الدهن أي تذوب وتجري كذوبان الدهن وجريه فتصير حمراء من حرارة جهنم وتصير مثل الدهن في رقته وذوبانه وهو إما جمع دهن أو اسم لما يدهن به كالأدام لما يؤتدم به وجواب إذا محذوف أي يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به دائرة المقال قال سعدي المفتي ناصب إذا محذوف أي كان ما كان من الأمر الهائل الذي لا يحيط به نطاق العبارة أو رأيت أمراً عظيماً هائلاً وبهذا الاعتبار تتسبب هذه الجملة عما قبلها لأن إرسال الشواظ يكون سبباً لحدوث الأمر الهائل أو رؤيته في ذلك الوقت ﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ مع عظم شأنها ﴿فَيَوْمَـاـاِذٍ﴾ أي يوم إذ انشقت السماء حسب ما ذكر
٣٠٢
﴿لا يُسْـاَلُ عَن ذَنابِه إِنسٌ وَلا جَآنٌّ﴾ لأنهم يعرفون بسيماهم فلا يحتاج في تمييز المذنب عن غيره إلى أن يسأل عن ذنبه إن أراد أحد أن يطلع على أحوال أهل المحشر وذلك أول ما يخرجون من القبور ويحشرون إلى الموقف فوجاً فوجاً على اختلاف مراتبهم وأما قوله فوربك لنسألنهم أجمعين ونحوه ففي موقف المناقشة والحساب وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا فإنه أعلم بذلك منهم ولكن يسألهم لم عملتم كذا وكذا وعنه أيضاً ويسألون سؤال شفاء وراحة وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ وضمير ذنبه للإنس لتقدمه رتبة وأفراده لما أن المراد فرد من الإنس كأنه قيل لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جني وأراد بالجان الجن كما يقال تميم ويراد ولده ﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ مع كثرة منافعها فإن الاخبار بما ذكر مما يزجركم عن الشر المؤدي إليه وفيه إشارة إلى شعاشع أنوار الطاعة والعبادة على صفحات وجنات إنس الروح وإلى تراكم ظلمات المعصية والمتمرد وسلاسل الطغيان وإغلال العصيان على صفحات وجوه جن النفس المظلمة وأعناقهم المتمردة الآبية عن الطاعة والانقياد فبأي آلاء ربكما تكذبان مما أنعم الله على عباده المنقادين في هذا اليوم ومما نانتقم من عباده المتمردين في ذلك اليوم فإن الانتقام من الأعداء نعمة على الأحباب ولذا ورد الحمد عقيبه كما قال تعالى فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمدرب العالمين وكمال الانتقام بإفناء أوصاف النفس الأمارة بالكلية
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٨٨