﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـاهُمْ﴾ السيما والسيماء بالكسر والقصر والمد العلامة والجملة استئناف يجري مجرى التعليل لعدم السؤال قيل يعرفون بسواد الوجوه وزرقة العيون وقيل بما يعلوهم من الكآبة والحزن كما يعرف الصالحون بأضداد ذلك ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاقْدَامِ﴾ النواصي جمع ناصية وهي مقدم الرأس والمراد هنا شعرها والجار والمجرور هو القائم مقام الفاعل يقال أخذه إذا كان المأخوذ مقصوداً بالأخذ وونه قوله تعالى خذوا حذركم ونحوه وأخذ به إذا كان المأخوذ شيئاً من ملابسات المقصود بالأخذ ومنه قوله تعالى : لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي وقول المستغيث خذ بيدي أخذ الله بيدك والمعنى تأخذ الملائكة بنواصيهم أي بشعور مقدم رؤوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار أو تسحبهم الملائكة إلى النار تارة تأخذ بالنواصي وتجرهم على وجوههم أو يجمع بين نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم ﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ من المواعظ والزواجر ﴿هَـاذِه جَهَنَّمُ الَّتِى يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ على إرادة القول أي يقال لهم ذلك بطريق التوبيخ ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَهَا﴾ أي يدرون بين النار يحرقون بها ﴿وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ﴾ أي ماء بالغ من الحرارة أقصاها يصب عليهم أو يسقون منه أي يطوفون من النار إلى الحميم ومن الحميم إلى النار دهشاً وعطشاً أبداً من أنى يأنى فهو آن مثل قضى يقضي فهو قاض إذا انتهى في الحر والفيح قال أبو الليث يسلط عليهم الجوع فيؤتى بهم إلى الزقوم الذي طلعها كرؤوس الشياطين فأكلوا منها فأخذت في حلوقهم فاستغاثوا بالماء فأوتوا به من الحميم فإذا قربوه إلى وجوههم تناثر لحم وجوههم ويشربون فتغلي أجوافهم ويخرج جميع ما فيها ثم يلقى عليهم الجوع فمرة يذهب بهم إلى الحميم ومرة إلى الزقوم وقال كعب الأحبار : إن وادياً من أودية
٣٠٣
جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقاً جديداً فيلقون في النار ﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ وقد أشير إلى سر كون بيان أمثال هذه الأمور من قبيل الآلاء مراراً فالآلاء في أمثالها حكايتها فقط للانزجار مما يؤدي الابتلاء بها من الكفر والمعاصي بخلاف ما فصل في أول السورة إلى قوله كل يوم الخ فإنها نعم واصلة إليهم في الدنيا وكذلك حكاياتها من حيث إيجابها للشكر والمثابرة على ما يؤدي إلى استدامتها وفي الآية إشارة إلى الكاسبين بقدم مخالفة الشرع وموافقة الطبع الصفات الذميمة وأخلاق الرذيلة وهم يطوفون بين نار المخالفات الشرعية والموافقات الطبيعية وبين حميم الجهل فإنه لا يقطع العطش ولا يروي الظمآن وإنما ينفع للإنسان في الدنيا والآخرة العلم القطعي والكشف الصحيح ألا ترى إلى علوم أهل الجدل فإنها في حكم الجهل لأن أهلها منغمسون في الشهوات واللذات مستغرقون في الأوهام والخيالات ولما نبه الله الإمام الغزالي رحمه الله وأيقظه ونظر فإذا علومه التي صرف شطراً من عمره في تعلمها وتعليمها لا تنقذه في الآخرة رجع إلى كتب الصوفية فتيقن أنه ليس أنفع من علومهم لكون معاملاتها ذات الله وصفاته وأفعاله وحقائق القرآن وأسراره فترك التدريس ببغداد وخرج إلى طلب أهل تلك العلوم حتى يكون منها على ذوق بسبب صحبتهم فوفقه الله فكان من أمره ما كان وقد قال أبو يزيد البسطامي قدس سره : أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت وقال الإمام فخر الدين للشيخ نجم الدين قدس سره : بم عرفت ربك؟ قال : بواردات ترد على القلوب فتعجز النفوس عن تكذيبها فالنفس كجهنم فيها نار الشهوات حميم الجهالات فمن زكاها في الدنيا أوصافها نجا يوم القيامة من الاحتراق والافتراق نعوذ بالله من سوء الحال وسيئات الأَمال وقبائح الأحوال :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٨٨
نمى تازد اين نفس سركش نان
كه عقلش تواند كرفتن عنان
كه بانفس وشيطان برايد بزور
مصلف لنكان نيايد زمور