وفي التأويلات النجمية يشير إلى من يخاف مقام الشهود إبقاء على نفسه لأن الشهود الحقيقي يفني الشاهد عن شاهديته في المشهود ويبقيه بالمشهود من آخر مراتب المشاهدة إذ لا لذة في أوائل المشاهدة وإليه أشار عليه السلام بقوله : اللهم ارزقنا لذة النظر إلى لقائك وبهذا المعنى كان يقول لعائشة رضي الله عنها حين يغيب عن حسه كلميني يا حميراء للتبليغ والإرشاد وقوله جنتان أي جنته الفناء في نعمة المشهود وجنة البقاء بالمشهود قوله مقام ربه أي مقام شهود ربه بحذل المضاف فبأي آلاء ربكما تكذبان من نعمة الفناء في الله ونعمة البقاء بالله ﴿ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ﴾ صفة لجنتان وما بينهما اعتراض وسط بينهما تنبيهاً على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة موجب للإنكار والتوبيخ وذواتا تثنية ذات بمعنى صاحبة وفي تثنيتها لغتان الرد على الأصل فإن أصلها ذوية لأنها مؤنثة ذوي والتثنية على اللفظ أن يقال ذاتاً والإفنان جمع فن أي ذواتا أنواع من الأشجار والثمار أو جمع فنن وهو الغصن المستقيم طولاً أو الذي يتشعب من فروع الشجرة أي ذواتاً أغصان متشعبة من فروع الشجرة وتخصيصها بالذكر لأنها التي تورق وتثمر وتمد الظل وتجتني منها الثمار يعني أن في الوصف تذكيراً لها على سبيل الكناية كأنه قيل ذواتاً أوراق وأثمار وأظلال ﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ وليس فيها شيء يقبل التكذيب ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴾ صفة أخرى لجنتان فصل بينهما بقوله فبأي الخ مع أنه لم يفصل به بين الصفات الكائنة من قبيل العذاب حيث قال يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس مع أن إرسال النحاس غير إرسال الشواظ أي في كل واحدة منهما عين من ماء غير آسن تجري كيف يشتاء صاحبها في الأعالي والأسافل لما علم من وصف أنهار الجنة لا من حذف المفعول وقيل تجريان من جبل من مسك عن ابن عباس والحسن رضي الله عنهم تجريان بالماء الزلال إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل وقال أبو بكر الوراق رحمه الله : فيهما عينان تجريان لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة إلى الله تعالى :
بران ازدوسر شمه ديده جوى
ورآ لا يشى دارى از خود بشوى
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٨٨
نريزد خدا آب روى كسى
كه ريزد كناه آب شمش بسى
﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ وفيه إشارة إلى أن في جنة الفناء عينا يجري فيها ماء الحياة وهي البقاء بعد الفناء وفي جنة البقاء عيناً يجري فيها ماء العلم والمعرفة والحكمة والبقاء بعد الفناء يستلزم أنواع المعارف والحكم وأصناف الموائد والنعم فبأي آلاء ربكما تكذبان يا أصحاب السكر والغيبة ويا أرباب الصحور والحضور كما في التأويلات النجمية ﴿فِيهِمَا مِن كُلِّ فَـاكِهَةٍ زَوْجَانِ﴾ صنفان معهود وغريب لم يره أحد ولم يسمع أو رطب ويابس أو حلو وحامض ويقال لونان وقيل في المنظر دون المطعم وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما في الدنيا
٣٠٦
حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلا أنه حلو وذلك لأن ما في الجنة خلق من حلاوة الطاعات فلا يوجد فيها المر المخلوق من مرارة السيئات كزقوم جهنم ونحوه ولكون الجنة دار الجمال لا يوجد فيها اللوون الأسود أيضاً لأنه من آثار الجلال والجملة صفة أخرى لجنتان ﴿فَبِأَىِّ ءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ أي من هذه النعم اللذيذة ﴿مُتَّكِـاِينَ﴾ حال من الخائفين لأن من خاف في معنى الجمع والمعنى يحصل لهم جنتان متكئين أي جالسين جلسة الملوك جلوس راحة ودعة معتمدين ﴿عَلَى فُرُشٍ﴾ جمع فراش بالكسر وهو ما يفرش ويبسط ويستمهد للجلوس والنوم ﴿بَطَآاـاِنُهَا﴾ جمع بطانة وهي بالكسر من الثوب خلاف ظهارته بالفارسية آستر ﴿مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ قرأ ورش عن نافع ورويس عن يعقوب من استبرق بحذف الألف وكسر النون لإلقاء حركة الهمزة عليها والباقون بإسكان النون وكسر الألف وقطعها والإستبرق ما غلظ من الديباج قيل هو استفعل من البريق وهو الإضاءة وقيل من البرقة وهو اجتماع ألوان وجعل اسماً فأعرب إعرابه وقد سبق شرحه في الدخان والمعنى من ديباج ثخين وحيث كانت بطائنها كذلك فما ظنك بظهائرها يعني أن الظهارة كانت أشرف وأعلى كما قال عليه السلام لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه الحلة فذكر المنديل دون غيره تنبيهاً بالأدنى على الأعلى وقيل ظهائرها من سندس أو من نور أو هو مما قال الله تعالى فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ﴿وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ﴾ جنى اسم بمعنى المجني كالقبض بمعنى المقبوض لقول علي رضي الله عنه :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢٨٨
هذا جناى وخياره فيه
وكل جان يده إلى فيه