بطونكم من شدة الجوع أو بالقسر وفيه بيان لزيادة العذاب وكماله أي لا يكتفي منكم بنفس الأكل كما لا يكتفي من يأكل الشيء تحلة القسم بل تلزمون بأن تملأوا منها البطون أي يملأ كل واحد منكم بطنه أو بطون الإمعاء والأول أظهر والثاني أدخل في التعذيب ﴿فَشَـارِبُونَ عَلَيْهِ﴾ أي على شجر الزقوم أي عقيب ذلك بلا ريث لعطشكم الغالب وتذكير ضمير الشجر باعتبار اللفظ ﴿مِنَ الْحَمِيمِ﴾ أي الماء الحار في الغاية ﴿فَشَـارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ﴾ كالتفسير لما قبله أي لا يكون شربكم شرباً معتاداً بل يكون مثل شرب الهيم وهي الإبل التي بها الهيام وهوداء يصيبها يشبه الاستسقاء فتشرب ولا تروي إلى أن تموت أو تسقم سقماً شديداً جمع أهيم وهيماء فأصله هيم كأحمر وحمر وفقلبت الضمة كسرة لتصح الياء والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع والتهاب النار في أحشائهم ما يضطرهم إلى أهل الزقوم الذي هو كالمهل فإذا ملأوا منه بطونهم وهو في غاية الحرارة والمرارة سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع إمعاءهم فيشربونه شرب الإبل العطاش وفيه بيان لزيادة العذاب أيضاً أي لا يكون شربكم أيها الضالون كشرب من يشرب ماء حاراً منتناً فإنه يمسك عنه إذا وجده مؤلماً معذباً بخلاف شربكم فإنكم تلزمون بأن تشربوا منه مثل ما يشرب الجمل الأهيم فإنه يشرب ولا يروى وفي الآية إشارة إلى إفراط النفس والهوى في شرب ماء حميم الجهل والضلال وفي أكل زقوم المشتهيات المورثة للوبال ولغاية حرصها لا تزيد إلا جوعاً وعطشاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٣١٦
كجا ذكر كنجد در انبان آز
بسختى نفس ميكند ا دراز
﴿هَـاذَا﴾ الذي ذكر من الزقوم والحميم أول ما يلقونه من العذاب ﴿نُزُلُهُمْ﴾ أيرزقهم المعد لهم أي كالنزل الذي يعد للنازل مما حضر مكرمة له ﴿يَوْمَ الدِّينِ﴾ أي يوم الجزاء فإذا كان ذلك نزلهم فما ظنك بحالهم بعدما استقر لهم القرار واطمأنت بهم الدار في النار وفيه من التهكم ما لا يخفى كما في قوله تعالى فبشرهم بعذاب أليم لأن ما يعد لهم في جهنم ليس مكرمة لهم والجملة مسوقة من جهته تعالى بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت القول ﴿نَحْنُ خَلَقْنَـاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ﴾ أي فهلا تصدقون أيها الكفرة بالخلق فإن ما لا يحققه العمل ولا يساعده بل ينبىء عن خلافه ليس من التصديق في شيء أو بالبعث فإن من قدر على الإبداء قدر على الإعادة.
اعلم أن الله تعالى إذا أخبر عن نفسه بلفظ الجميع يشير به إلى ذاته وصفاته وأسمائه كما قال : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وكما قال : إنا أنزلناه وإذا أخبر عن نفسه بلفظ المفرد يشير إلى ذاته المطلقة كما قال : إني أنا الله رب العالمين هذا إذا كان القائل المخبر هو الله تعالى وأا إذا كان العبد فينبغي أن يقول أنت يا رب لا أنتم لإيهامه الشرك المنافي لتوحيد القائل ولذا يقال أشهد أن لا إله إلا الله ليدل على شهادته بخصوصه فيتعين توحيده ويظهر تصديقه ﴿أَفَرَءَيْتُم مَّا تُمْنُونَ﴾ أي تقذفونه وتصبونه في أرحام النساء من النطف التي يكون منها الولد فقوله أفرأيتم بمعنى أخبروني وما تمنون مفعوله الأول والجملة الاستفهامية مفعوله الثاني يقال : أمنى الرجل يمنى لا غير ومنيت
٣٣٠
الشيء أمنيه إذا قضيته وسمي المني منياً لأن الخلق منه يقضي ﴿ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ﴾ أي تقدرونه وتصورونه بشراً سوياً في بطون النساء ذكراً أو أنثى ﴿أَمْ نَحْنُ الْخَـالِقُونَ﴾ له من غير دخل شيء فيه وأم قيل منقطعة لأن ما بعدها جملة فالمعنى بل أنحن الخالقون على أن الاستفهام للتقرير وقيل متصلة ومجيء الخالقون بعد نحن بطريق التأكيد لا بطريق الخبرية أصالة وفيه إشارة إلى معنى أن وقوع نطف الأعمال والأفعال وموادها في أرحام قلوبكم ونفوسكم بخلقي وإرادتي لا بخلقكم وإرادتكم ففيه تخصيص مواد لخواطر المقتضية للأفعال والأعمال الأقوال إلى نفسه وقدرته وسلبها عن الخلق ﴿نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾ أي قسمناه عليكم ووقتنا موت كل أحد بوقت معين حسبنا تقتضيه مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة فمنهم من يموت صغيراً ومنهم من يموت كبيراً.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٣١٦


الصفحة التالية
Icon