ـ روي ـ أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنفقوا تفقات كثيرة حتى قال ناس هؤلاء أعظم أجراً من كل من أنفق قديماً فنزلت الآية مبينة أن النفقة قبل فتح مكة أعظم أجراً ﴿مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ﴾ أي فتح مكة الذي أزال الهجرة وقال عليه السلام فيه : لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وهذا قول الجمهور وقال الشعبي : هو صلح الحديبية فإنه فتح كما سبق في سورة الفتح ﴿وَقَـاتَلَ﴾ العدو تحت لواء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والاستواء يقتضي شيئين فقسيم من أنفق محذوف لوضوحه ودلالة ما بعده عليه أي لا يستوي في الفضل من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعده وقاتل والظاهر أن من أنفق فاعل لا يستوي وقيل من مبتدأ ولا يستوي خبره ومنكم حال من ضمير لا يستوي لا من ضمير أنفق لضعف تقديم ما في الصلة على الموصول أو الصفة على الموصوف ولضعف تقديم الخبر على منكم لأن حقه أن يقع بعده ثم في أنفق إشارة إلى إنفاق المال وما يقدر عليه من القوء وفي قاتل إشارة إلى أنفاق النفس فإن الجهاد سعي في بذل الوجود ليحصل بالفناء كمال الشهود ولذا قال تعالى : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون فهذه الحياة حياة أخروية باقية عندية فكيف تساويها الحياة الدنيوية الفانية الخلقية مع أن رزق الحياة الفانية ينفد وما عند الله باق ولذا قال : أكلها دائم وظلها أي راحتها فالإنسان العاقل بترك الراحة الدنيوية اليسيرية تعالى يصل إلى الراحة الكثيرة الأخروية فشأنه يقتضي الجهاد والقتال ﴿أولئك﴾ المنفقون المقاتلون قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً﴾ وأرفع منزلة عند الله وبعظم الدرجة يكون عظم صاحبها فالدرجة بمعنى المرتبة والطبقة وجمعها درجات وإذا كانت بمعنى المرقاة فجمعها
٣٥٦
درج ﴿مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنا بَعْدُ وَقَـاتَلُوا﴾ لأنهم إنما فعلوا من الإنفاق والقتال قبل عزة الإسلام وقوة أهله عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال وهؤلاء فعلوا ما فعلوا بعد ظهور الدين ودخول الناس فيه أفواجاً وفلة الحاجة إلى الإنفاق والقتال وقد صرح عليه السلام أيضاً بفضل الأولين بقوله : لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم وملا نصيفه قال في القاموس : المد بالضم مكيال وهو رطلان أو رطل وثلث أو ملىء كفي الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومديده بهما وبه سمي مداً وقد جربت ذفلك فوجدته صحيحاً والنصيف والنصف واحد وهو أحد شقي الشيء وللضمير في نصيفه راجع إلى أحدهم لا إلى المد والمعنى أن أحدكم أيها الصحابة الحاضرون لا يدرك بإنفاق مثل جبل أحد ذهباً من الفضيلة ما أدرك أحدهم بإنفاق مد من الطعام أو نصيف له وفيه إشارة إلى أن صحبة السابقين الأولين كاملة بالنسبة إلى صحبة اللاحقين الآخرين لسبقهم وتقدمهم وفي الحديث : سيأتي قوم بعدكم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم قالوا : يا رسول الله نحن أفضل أم هم؟ قال : لو أن أحدهم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك فضل أحدكم ولا نصفه فرقت هذه الآية بينكم وبين الناس لا يستوي منكم الآية ذكره أبو الليث في تفسيره وفيه إشارة إلى أن الصحابة متفاوتون في الدرجة بالنسبة إلى التقدم والتأخر وإحراز الفضائل فكذا الصحابة ومن بعدهم فالصحابة مطلقاً أفضل ممن جاء بعدهم مطلقاف فإنهم السابقون من كل وجه
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٣٤٤
﴿وَكُلا﴾ أي كل واحد من الفريقين وه مفعول أول لقوله :﴿وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ أي المثوبة الحسنى وهي الجنة لا الأولين فقط ولكن الدرجات متفاوتة ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ بظواهره وبواطنه فيجازيكم بحسبه قال في المناسبات لما كان زكاء الأعمال إنما هو بالنيات وكان التفضيل مناط العلم قال مرغباً في حسن النيات مرهباً من التقصير فيها والله بما تعملون أي تجددون عمله على ممر الأوقات خبير أي عالم بباطنه وظاهره علماً لا مزيد عليه بوجه فهو يجعل جزاء الأعمال على قدر النيات التي هي أرواح صورها :
عبادت بإخلاص نيت نكوست
وكرنه ه آيد زبى مغز وست