﴿فَاعْتَبِرُوا﴾ س عبرت كيريد يا اأُوْلِى الابْصَـارِ} أي يا أولي الألباب والعقول والبصائر يعني اتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي وانتقلوا من حال الفريقين إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب كبني النضير الذين اعتمدوا على حصونهم ونحوها بل توكلوا على الله تعالى وفي عين المعاني فاعتبروا بها خراب جميع الدنيا :
جهان اي سر ملك جاويد نيست
ز دنيا وفادارى اميد نيست
والاعتبار مأخوذ من العبور وهو المجاوزة من شيء إلى شيء ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الحد وسمي أهل التعبير لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول وسميت الألفاظ عبارات لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع ويقال السعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حاله نفسه :
و بركشته بختى در افتد ببند
ازونيك بختان بكيرند ند
والبصر يقال للجارحة الناظرة وللقوة التي فيها ويقال القلب المدركة بصيرة وبصر ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة كما في المفردات قال بعض التفاسير الأبصار جمع بصر وهو ما يكون في الرأس وبه يشاهد عالم الملك وهو عالم الشهادة حتى لو كان بين الرائي والمرئى مقدار عدة آلاف سنة يشاهده في طرفة عين بوصول نور من حدقة العين إلى المرئي حكاية للرائي والبصيرة في القلب كالبصر في الرأس وبها يشاهد عالم الملكوت وهو عالم الغيب
٤٢٠
حتى لو شاهد المشاهد في العالم الأعلى وفي اللوح المحفوظ بل في علم الله تعالى مما تتعلق مشيئة الله بمشاهدة أحد إياه من عباده لشاهده في آن واحد وقد يشاهد الممتنع والمحال وغير المتناهي بنوع مشاهدة كما نجده في وجداننا وكل ذلك من غرائب صنع الله وجعل البعض البصر ههنا مجازاً عن المشاهدة لأنه كثيراً ما يكون آلة لمشاهدتها ويكون هو معتبراً باعتبارها حتى لولاها يكون هو في حكم المفقود وبهذا الاعتبار أورد الإبصار في مقام البصائر فقال في تفسيره : فاتعظوا وانظروا فيما نزل بهم يا ذوي العقول والبصائر وهذا هو الأليق بشأن الإتعاظ والأوفق لقوله تعالى فاعتبروا يا أولي الألباب إذ اللب وهو العقل الخالص عن الكدورات البشرية والبصيرة التي هي عين القلب حين ما كانت مجلوة خاصة بالعقلاء اللائقين للخطاب بالأمر بالاعتبار وأما البصر فيوجد في البهائم والبصيرة الغير المجلوة فتوجد في العوام وجعله البعض الآخر على حقيقته فقال في تفسيره فاعتبر يا من عاين تلك الوقائع لكن مآل القولين واحد إذ مجرد البصر المعاين لا يفيد الاعتبار بلا بصيرة صحيحة وفي الوسيط معنى الاعتبار النظر في الأمور ليعرف بها شيء آخر من جنسها قال يحيى بن معاذ رحمه الله : من لم يعتبر بالمعاينة استغنى عن الموعظة وقد استدل بالآية على حجية القياس من حيث أنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال وحملها عليها في حكم لما بينهما من المشاركة المقتضية له كما فصل في الكتب الأصولية وأشار بأهل الكتاب إلى يهودي النفس ونصراني الهوى وإنما نسبنا التنصر إلى الهوى والتهود إلى النفس لغلبة عطلة النفس فإن الهوى بالنسبة إلى النفس كالروح بالنسبة إلى الجسم البدني ولهذا المعنى قيل الهوى روح النفس ينفخ فيها هوى الشهوات الحيوانية ويهوى إلى هاوية الجحيم والله تعالى يستأصلها من ديار صفاتها الظلمانية بالصدمة الأولى من قتال الحشر الأول وظنوا أن حصون طباعهم الرديئة تمنعهم عن الانسلاخ من صفاتهم الخسيسة فأتاهم الله بالتجلي القهري وقذف في قلوب النفس والهوى رعب المفارقة بينهما فإن كل واحد منهما كان متمسكاً بالآخر تمسك الروح بالبدن وقيام البدن بالروح يخربون بيوت صفاتهم بأدي أهوائهم المضلة وبقوة أيدي الروح والسر والقلب لغلبة نوريتهم عليها فاعبروا يا أولي الأبصار الذين صار الحق تعالى بصرهم كما قال فبي يبصر وبي يسمع وبي يبطش الحديث بطوله
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤١٥
﴿وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللَّهُ﴾ حكم ﴿عَلَيْهِمُ﴾ أي على بني النضير ﴿الْجَلاءَ﴾ أي الخروج من أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع وقد سبق الكلام في الجلاء ولولا امتناعية وما بعدها مبتدأ فإن أن مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن المقدر أي ولولا أنه وكتب الله خبرها والجملة في محل الرفع بالابتداء بمعنى ولولا كتاب الله عليهم الجلاء واقع في علمه أو في لوحه ﴿لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا﴾ بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة من اليهود قال بعضهم لما استحقوا بجرمهم العظيم قهراً عظيماً أخذوا بالجلاء الذي جعل عديلاً لقتل النفس لقوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلى قليل منهم مع أن فيه احتمال إيمان بعضهم بعد مدة وإيمان من يتولد منهم ﴿وَلَهُمْ فِى الاخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ استئناف غير متعلق بجواب لولا إذ لو كان معطوفاً
٤٢١


الصفحة التالية
Icon