هذا القول الغريب في عظمة القرآن ودناءة حال الإنسان وبيان صفتهما العجيبة وسائر الأمثال الواقعة في القرآن فإن لفظ المثل حقيقة عرفية في القول السائر ثم يستعار لكل أمر غريب وصفة عجيبة الشان تشبيهاً له بالقول السائر في الغرابة لأنه لا يخلو عن غرابة ﴿نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ﴾ بيان ميكنيم مرانسانرا قد جاء في سورة الزمر ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل بالأخبار على المضي مع أنها مكية وقال هنا نضربها بالاستقبال مع أن السورة مدينة فلعل الأول من قبيل عد ما سيحقق مما حقق لتحققه بلا خلف والثاني من قبيل التعبير عن الماضي بالمضارع لإحضار الحال أو لإرادة الاستمرار على الأحوال بمعنى أن شأننا أن نضرب الأمثال للناس ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي لمصلحة التفكر ومنفعة التذكير.
يعني شايدكه انديشه كنند دران وبهره بردارند ازان بإيمان.
ولا يقتضي كون الفعل معللاً بالحكمة والمصلحة أن يكون معللاً بالغرض حتى تكون أفعاله تعالى معلة بالأغراض إذ الغرض من الاحتياج والحكمة اللطف بالمحتاج وعن بعض العلماء أنه قال : من عجز عن ثمانية فعليه بثمانية أخرى لينال فضلها من أراد فضل صلاة الليل وهو نائم فلا يعص بالنهار ومن أراد فضل صيام التطوع وهو مفطر فليحفظ لسانه عما لا يعنيه ومن أراد فضل العلماء فعليه بالتفكر ومن أراد فضل المجاهدين والغزاة وهو قاعد في بيته فليجاهد الشيطان ومن أراد فضل الصدقة وهو عاجز فليعلم الناس ما سمع من العلم ومن أراد فضل الحج وهو عاجز فليلتزم الجمعة ومن أراد فضل العابدين فليصلح بين الناس ولا يوقع العداوة ومن أراد فضل الإبدال فليضع يده على صدره ويرضى لأخيه ما يرضى لنفسه قال عليه السلام : أعطوا أعينكم حظها من العبادة قالوا : ما حظها من العبادة يا رسول الله؟ قال : النظر في المصحف والتفكر فيه والاعتبار عند عجائبه.
وفي المثنوي :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤١٥
خوش بيان كرد آن حكيم غزنوى
بهر محجوبان مثال معنوي
كه ز قرآن كرنه بيند غير قال
اين عجب نيودز اصحاب ضلال
كز شعاع آفتاب رز نور
غير كرمى مى نيابد شم كور
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بل قلب وعن الحسن البصري رحمة الله من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو ومن لم يكن نظره عبرة فهو لهو وعن أبي سليمان رحمه الله الفكرة في الدنيا حجاب عن الآخرة وعقوبة لأهل الولاية والفكرة في الآخرة تورث الحكمة وتجبي القلب وكثيراً ما ينشد سفيان بن عيينة ويقول :
إذا المرء كانت له فكرة
ففي كل شيء له عبرة
والتفكر إما أن يكون في الخالق أو الخلق والأول إما في ذاته أو في صفاته أو في أفعاله أما في ذاته فممنوع لأنه لا يعرف الله إلا الله إلا أن يكون التفكر في ذاته باعتبار عظمته وجلاله وكبريائه من حيث وجوب الوجود ودوام البقاء وامتناع الإمكان والفناء والصمدية التي هي الاستغناء عن الكل وأما في صفاته فهو فيها باعتبار كمالها بحيث يحيط علمه بجميع
٤٥٣
المعلومات وقدرته بجميع الأشياء وإرادته بجميع الكائنات وسمعه بجميع المسموعات وبصره بجميع المبصرات ونحو ذلك وأما في أفعاله فهو فيها بحسب شمولها وكثرتها ومتانتها ووقوعها على الوجه الأتم كل يوم هو في شأن والثاني أما أن يكون فيما كان من العلويات والسفليان أو فيما سيكون من أهوال القيامة وأحوال الآخرة إلى أبد الآباد قال بعض العارفين : الفكر إما في آيات الله وصنائعه فيتولد منه المعرفة وأما في عظمة الله وقدرته فيتولد منه الحياة وأما في نعم الله ومنته فيتولد منه المحبة وأما في وعد الله بالثواب فيتولد منه الرغبة في الطاعة وأما في وعيد الله بالعقاب فيتولد منه الرهبة من المعصية وأما في تفريط العبد في جنب الله فيتولد منه الحياء والندامة والتوبة ومن مهمات التفكر أن يتفكر المتفكر في أمر نفسه من مبدأه ومعاشه ومن إطاعته لربه ببدنه ولسانه وفؤاده ولو صرف عمره في فكر نفسه نظراً إلى أول أمره وأوسطه وآخره لما أتم وفي الآية إشارة إلى أن الله لو تجلى بصورة القرآن الجمعي المشتمل على حروف الموجودات العلوية وكلمات المخلوقات السفلية على جبل الوجود الإنساني لتلاشى من سطوة التجلي وإلى أن العارف ينبغي أن يذوب تحت الخطاب الإلهي من شدة التأثير وإلى أن هذه الأمة حملوا بهمتهم ما لم تحمله الجبال بقوتها كما قال تعالى فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤١٥


الصفحة التالية
Icon