﴿وَأُخْرَى﴾ أي ولكم إلى هذه النعم العظيمة نعمة أخرى عاجلة فأخرى مبتدأ حذف خبره والجملة عطل على يغفر لكم على المعنى ﴿تُحِبُّونَهَا﴾ وترغبون فيها وفيه تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل وتوبيخ على محبته وهو صفة بعد صفة لذلك المحذوف ﴿نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ﴾ بدل أو بيان لتلك النعمة الأخرى يعني نصر من الله على عدوكم قريش
٥٠٩
وغيرهم ﴿وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ أي عاجل عطف على نظر.
قال الكاشفي : مراد فتح مكة است يا فتح روم وفارس ابن عطا فرموده كه نصر توحيد است وفتح نظر بجمال ملك مجيد.
وقد بين أنواع الفتوح في سورة الفتح فارجع.
اشارت الآية إلى أن الإيمان الاستدلالي اليقيني وبذل المال والنفس بمقتضاه في طريق الجهاد الأصغر وإن كان تجارة رابحة إلا أن أصحابها لم يتخلصوا بعد من الأعواض والأغراض فللسالك إلى طريق الجهاد الأكبر تجارة أخرى فوق تلك التجارة أربح من الأولى هي نصر من الله بالتأييد الملكوتي والكشف النوري وفتح قريب الوصول إلى مقام القلب ومطالعة تجليات الصفات وحصول مقام الرضى وإنما سماه تجارة لأن صفاتهم الظلمانية تبدل هناك بصفات الله النورانية وإنما قال تحبونها لأن المحبة الحقيقية لا تكون إلا بعد الوصول إلى مقام القلب ومن دخل مقام المحبة بالوصول إلى هذا المقام فقد فخل في أول مقامات الخواص فالمعتبر من المنازل منزل المحبة وأهله عبيد خلص لا يتوقعون الأجرة بعملهم بخلاف من تنزل عن منزلة المحبة فإنهم أجراء يعملون للأجرة قال بعض العارفين من عليه السلام رجاء للثواب وخوفاً من العقاب فمعبوده في الحقيقة هو الثواب والعقاب والحق واسطة فالعبادة لأجل تنعم النفس في الجنة والخلاص من النار معلول ولهذا قال المولى جلال الدين الرومي قدس سره :
هشت جنت هفت دوزخ يش من
هست يدا هموبت يش شمن
وقال بعضهم :
طاعت ازبهر جزا شرك خفيست
يا خدا جوباش ويا عقبى طلب
واعلم أن من جاهد فإنما يجاهد لنفسه لأنه يتخلص من الحجاب فيصل إلى الملك الوهاب ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ عطف على محذول مثل قل يا أيها الذين آمنوا وبشرهم يا أكمل الرسل بأنواع البشارة الدنيوية والأخروية فلهم من الله فضل وإحسان في الدارين وكان في هذا دلالة على صدق النبي لأنه أخبر عما يحصل ويقع في المستقبل من الأيام على ما أخبره.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٩٣
وفي التأويلات النجمية يشير إلى تواتر النعم وتواليها وفتح مكة القلب بعد النصر بخراب بلدة النفص وبشر المؤمنين المحبين الطالبين بالنصر على النفس فتح مكة القلب انتهى وفيه إشارة إلى أن بلدة النفس إنما تخرب بعد التأييد الملكوتي وإمداد جنود الروح بأن تغلب القوى الروحانية على القوى النفسانية كما يغلب أهل الإسلام على أهل الرحب فيخلصون القلعة من أيدي الكفار ويزيلون آثار الكفر والشرك بجعل الكنائس مساجد وبيوت الأصنام معابد ومساكن الكفار مقار المؤمنين المخلصين والله المعين على الفتح المطلق كل حين يا اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ} أي أنصار دينه جمع نصير كشريف وإشراف ﴿كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّـانَ﴾ سيأتي بيانهم ﴿مِنَ﴾ كيستند ﴿أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ﴾ قال بعض المفسرين : من يحتمل أن يكون استفهاماً حقيقة ليعلم وجود الأنصار ويتسلى به ويحتمل العرض والحث على النصرة وفيه دلالة على أن غير الله تعالى لا يخلو عن الاحتياج والاستنصار وأنه في وقته جائز حسن إذا كانفي الله والمعنى
٥١٠
من جندي متوجهاً إلى نصرة الله كما يقتضيه قوله تعالى :﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ﴾ فإن قوله عيسى لا يطابق جواب الحواريين بحسب الظاهر فإن ظاهر قول عيسى يدل على أنه يسأل من ينصره فكيف يطابقه جواب الحواريين بأنهم ينصرون الله وأيضاً لا وجه لبقاء قول عيسى على ظاهره لأن النصرة لا تتعدى بإلى فحمل الأنصار على الجند لأنهم ينصرون ملكهم ويعينونه في مراده ومراده عليه السلام نصرة دين الله فسأل من يتبعه ويعينه في ذلك المراد ويشاركه فيه فقوله متوجهاً حال من ياء المتكلم في جندي وإلى متعلق به لا بالنصرة والإضافة الأولى إضافة إحد المتشاركين إلى اخر لما بينهما من الاختصاص يعني الملابسة المخصصة للإضافة المجازية لظهور أن الاختصاص الذي تقتضيه الإضافة حقيقة غير متحقق في إضافة أنصاري والإضافة الثاني إضافة الفاعل إلى المفعول والتشبيه باعتبار المعنى أي كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصاره حين قال لهم عيسى من أنصاري إلى الله أو قل لهم كونوا كما قال عيسى للحواريين والحواريون أصفياؤه وخلصانه من الحور وهو البياض الخالص وهم أول من آمن به وكانوا إثني عشر رجلاً قال مقاتل قال الله لعيسى إذا دخلت القرية فائت النهر الذي عليه القصارون فاسألهم النصرة فأتاهم عيسى وقال من أنصاري إلى الله فقالوا : نحن ننصرك فصدقوه ونصروه.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٤٩٣


الصفحة التالية
Icon