والبعث في الأميين لا ينافي عموم دعوته عليه السلام فالتخصيص بالذكر لا مفهوم له ولو سلم فلا يعارض المنطوق مثل قوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس على أنه فرق بين البعث في الأميين والبعث إلى الأميين فبطل احتجاج أهل الكتاب بهذه الآية على أنه عليه السلام كان رسول الله إلى العرب خاصة ورد الله بذلك ما قال اليهود للعرب طعناً فيه نحن أهل الكتاب وأنتم أميون لا كتاب لكم ﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ﴾ أي القرآن مع كونه أمياً مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم والفرق بين التلاوة والقرآن أن التلاوة قراءة القرآن متتابعة كالدراسة والأوراد المظفة والقراءة أعم لأنها جمع الحروف باللفظ لا اتباعها ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ صفة أخرى لرسولا معطوفة على يتلو أي يحملهم على ما يصيرون به أزكياء من خبائث العقائد والأعمال وفيه إشارة إلى قاعدة التسليك فإن المزكي في الحقيقة وإن كان هو الله تعالى كما قال بل الله يزكي من يشاء إلا أن الإنسان الكامل مظهر الصفات الإلهية جميعاً ويؤيد هذا المعنى إطلاق نحو قوله تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ قال في الإرشاد صفة أخرى لرسولا مترتبة في الوجود على التلاوة وإنما وسط بينهما التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب قوتها العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصلة بالعلم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كلاً من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر فلو روعي ترتيب الوجود لتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة وهو السر في التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتاب والحكمة رمزاً إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة انتهى وقال بعضهم : ويعلمهم القرآن والشريعة وهي ما شرع الله لعباده من الأحكام أو لفظه ومعناه أو القرآن والسنة كما قاله الحسن أو الكتاب الخط كما قاله ابن عباس أو الخير والشر كما قاله ابن إسحاق والحكمة الفقه كما قاله مالك أو العظة كما قاله الأعمش أو كتاب أحكام الشريعة وأسرار آداب الطريقة وحاصل معانيه الحكمية والحكمية ولكن تعليم حقائق القرآن وحكمه مختص بأولى الفهم وهم خواص الأصحاب رضي الله عنهم وخواص التابعين من بعدهم إلى قيام الساعة لكن معلم الصحابة عموماً وخصوصاً هو النبي عليه السلام بلا واسطة ومعلم التابعين قرناً بعد قرن هو عليه السلام أيضاً لكن بواسطة ورثة أمته وكمل أهل دينه وملته ولو لم يكن سوى هذا التعليم معجزة لكفاه قال البوصري في القصيدة البردية :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥١٢
كفاك بالعلم في الأمي معجزة
في الجاهلية والتأديب في اليتيم
أي كفاك العلم الكائن في الأمي في وقت الجاهلية وكفاك أيضاً تنبيهه على الآداب لعلمه
٥١٤
بها في وقت اليتيم معجزة ﴿وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـالٍ مُّبِينٍ﴾ إن ليست شرطية ولا نافية بل هي المخففة واللام هر الفارقة بينها وبين النافية والمعنى وأن الشأن كان الأميون من قبل بعثته ومجيئه لفي ضلال مبين من الشرك وخبث الجاهلية لا ترى ضلالاً أعظم منه وهو بيان لشدة افتقارهم إلى من يرشدهم وإزاحة لما عسى يتوهم من تعلمه عليه السلام من الغير فإن المبعوث فيهم إذا كانوا في ضلال قبل البعثة زال توهم أنه تعلم ذلك من أحد منهم قال سعدي المفتي : والظاهر أن نسبة الكون في الضلال إلى الجميع من باب التغليب وإلا فقد كان فيهم مهتدون مثل ورقة بن نوفل وزيد بن نفيل وقس بن ساعدة وغيرهم ممن قال رسول الله عليه السلام في كل منهم يبعث أمة وحده.