فإن المهاداة الممايلة ولذا قال بعض المفرين أي مالوا عن الإسلام والحق إلى اليهودية وهي من الأديان الباطلة كما سبق قال الراغب الهود الرجوع برفق وصار في التعارف التوبة قال بعضهم : يهود في الأصل من قولهم إنا هدنا إليك أي تبنا وكان اسم مد ثم صار بعد نسخ شريعتهم لازماً لهم وإن لم يكن فيه معنى المدح كما أن النصارى في الأصل من قولهم نحن أنصار الله ثم صار لازماً لهم بعد نسخ شريعتهم ثم إن الله تعالى خاطب الكفار في أكثر المواضع الواسطة ومنها هذه الآية لأنهم أدخلوا الواسطة يينهم وبين الله تعالى وهي الأصنام وأما المؤمنون فإن الله تعالى خاطبهم في أغلب المواضع بلا واسطة مثل يا أيها الذين آمنوا لأنه أسقطوا الوسائط فأسقط الله بينه وبينهم الواسطات ﴿إِن زَعَمْتُمْ﴾ الزعم هو القول بلا دليل والقول بأن الشيء على صة كذا قولا غير مستند إلى وثوق نحو زعمتك كريماً وفي القاموس الزعم مثلثة القول الحق والباطل والكذب ضد وأكثر ما يقال فيما يشك فيه انتهى.
فبطل ما قال بعضهم من أن الزعم بالضم بمعنى اعتقاد الباطل وبالفتح بمعنى قول الباطل قال الراغب الزعم حكاية قول يكون مظنة للكذب ولهذا جاء في القرآن في كل موضع ذم القائلون به وقيل للمتكفل والرئيس زعيم للاعتقاد ي قولهم إنه مظنة للكذب ﴿إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ﴾ جمع ولي بمعنى الحبيب ﴿مِن دُونِ النَّاسِ﴾ صفة أولياء أي من دون الأميين وغيرهم ممن ليس من بني إسرائيل وقال بعضهم من دون المؤمنين من العرب والعجم يريد بذلك ما كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ويدعون أن الدار الآخرة لهم عند الله خالصة وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً فأمر رسول الله عليه السلام بأن يقول لهم إظهاراً لكذبهم إن زعمتم ذلك ﴿فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ﴾ أي فتمنوا من الله أن يميتكم من دار البلية إلى دار الكرامة وقولوا اللهم أمتنا والتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها وبالفارسية آرزو خواستن.
قال بعضهم : الفرق بين التمني والاشتهاء أن التمني أعم من الاشتهاء لأنه يكون في الممتنعات دون الاشتهاء ﴿إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ﴾ جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين في زعمكم واثقين بأنه حق فتمنوا الموت فإن من أيقن أنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليا من هذه الدار التي هي قرارة اكدار ولا يصل إليها أحد إلا بالموت قال البقلي جرب الله المدعين في محبته بالموت وأفرز الصادقين من بينهم لما غلب عليهم من شوق الله وحب الموت فتبين صدق الصادقين ههنا من كذب الكاذبين إذ الصادق يختار اللحوق إليه والكاذب يفر منه قال عليه السلام : من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن أبغض لقاء الله أبغض الله لقاءه قال الجنيد قدس سره : المحب يكون مشتاقاً إلى مولاه ووفاته أحب إليه من البقاء إذ علم أن فيه الرجوع إلى مولاه فهو يتمنى الموت أبداً
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥١٢
﴿وَلا يَتَمَنَّونَه أَبَدَا﴾ إخبار بما سيكون منهم وأبداً ظرف بمعنى الزمان المتطاول
٥١٨
لا بمعنى مطلق الزمان والمراد به ما داموا في الدنيا وفي البقرة ولن يتمنوه لأن دعواهم في هذه السورة بالغة قاطعة وهي كون الجنة لهم بصفة الخلوص فبالغ في الرد عليهم بلن وهو أبلغ ألفاظ النفي ودعواهم في الجمعة قاصرة مترددة وهي زعمهم أنهم أولياء ا لله تعالى فاقصر على لا كما في برهان القرآن ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ الباء متعلقة بما يدل عليه النفس أي يأبون التمني بسبب ما عملوا من الكفر والمعاصي الوجبة لدخول النار نحو تحريف أحكام التوراة وتغيير النعت النبوب وهم يعرفون أنهم بعد الموت يعذبون بمثل هذه المعاصي ولما كانت اليد بين جوارح الإنسان مناط عامة أفاعيله عبر بها تارة عن النفس وأخرى عن القدوة يعني أن الأيدي هنا بمعنى الذوات استعملت فيها لزيادة احتياجها إليها فكأنها هي ﴿وَاللَّهُ عَلِيمُا بِالظَّـالِمِينَ﴾ وضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم في كل أمورهم أي عليم بهم وبما صدر عنهم من فنون الظلم والمعاصي المفضية إلى أفانين العذاب وبما سيكون منهم من الاحتراز عما يؤدي إلى ذلك فوقع الأمر كما ذكر فلم يتمن منهم أحد موته وفي الحديث :"لا يتمنين أحدكم الموت إما محسناً فإن يعش يزدد خيراً فهو خر له وإما مسيئاً فلعله إن يستعتب" أي يسترضي ربه بالتوبة والطاعة وما روي عن بعض أرباب المحبة من التمني فلغاية محبتهم وعدم صبرهم على الاحتراق بالافتراق ولا كلام في المشتاق المغلوب المجذوب كما قال بعضهم :
غافلان ازمرك مهلت خواستند
عاشقان كفتند نى نى زود بان
فللتمني أوقات وأحوال يجوز باعتبار ولا يجوز بآخر أما الحال فكما في الاشتياق الغالب وأما الوقت فكما أشار إليه قوله عليه السلام : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين فإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون.


الصفحة التالية
Icon