وأما الفرار العقلي بمعنى استكراهه الموت أو بمعنى الانتقال من مكان إلى مكان فالأول منهما إن كان من الانهماك في حظوظ الدنيا فمذموم وإن كان من خوف الموقف فصاحبه معذور كما حكي أن سليمان الداراني قدس سره قال : قلت لأمي أتحبين الموت قالت : لا قلت لم؟ قالت : لأني لو عصيت آدمياً ما اشتهيت لقاءه فكيف أحب لقاءه وقد عصيته وقس عليه الاستكراه رجاء الاستعداد لما بعد الموت وأما الثاني منهما فغير موجه عقلاً ونقلاً إذ المشاهدة تشهد أن لا مخلص من الموت فأينما كان العبد فهو يدرك وأما الفرار من بعض الأسباب الظاهرة للموت كهجوم النار المحرقة للدور والسيل المفرط في الكثرة والقوة وحمل العدو الغالب والسباع والهوام إلى غير ذلك فالظاهر أنه معذور فيه بل مأمور وأما الفرار من الطاعون فما يرجحه العقل والنقل عدم جوازه.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥١٢
أما العقل فما قاله الإمام الغزالي رحمه الله من أن سبب الوباء في الطب الهواء المضر وأظهر طرق التداوي الفرار من المضر ولا خلاف أنه غير منهي عنه إلا أن الهواء لا يضر ن حيث أنه يلاقي ظاهر البدن من حيث دوام الاستنشاق له فإنه إذا كان فيه عفونة ووصل إلى الرئة والقلب وباطن الأحشاء أثر فيها بطول الاستنشاء فلا يظهر الوباء على الظاهر إلا بعد طول التأثير في البطان فالخروج من البلد لا يخلص غالباً من الأثر الذي استحكم من قبل ولكنه يتوهم الخلاص فيصير هذا من جنس الموهومات كالرقي والطيرة وغيرهما وأنه لو رخص للأصحاء في الخروج لما بقي في البلد إلا المرضى الذين أقعدهم الطاعون انكسرت قلوبهم ولم يبق في البلد من يسقيهم الماء ويطعمهم الطعام وهم يعجزون عن مباشرتهم بأنفسهم فيكون ذلك سعياً في إهلاكهم تحقيقاً وخلاصهم منتظر كما أن خلا الأصحاء منتظر فلو أقاموا لم تكن الإقام قاطعة لهم بالموت ولو خرجوا لم يكن الخروج قاطعاً بالخلاص وهو قاطع في إهلاك الباقين والمسلمون كالبنيان يشد بعضهم بعضاً والمؤمنون كالجسد الواد إذا اشتكى منه عضو تداعى إلى الاشتكاء سائر أعضائه هذا هو الذي يظهر عندنا في تعليل النهي وينعكس هذا فيما إذا لم يقدم بعد على البلد فإنه لم يؤثر الهواء في باطنه وليس له حاجة إليهم.
وأما النقل فقوله تعالى ألم تر إلى الذين خرجو من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم فإنه إنكار لخروجهم فراراً منه وتعجيب بأنهم ليعتبر العقلاء بذلك ويتيقنوا أن لا مفر من قضاء الله فالمنهى عنه هو الخروج فراراً فإن الفرار من القدر لا يغني شيئاً وفي الحديث :"الفار من الطاعون كالفار من الزحف والصابر فيه له أجر شهيد" وفي الحديث يختصم الشهداء والمتوفون على فراشهم إلى ربنا عز وجل في الذين يتوفون في الطاعون فيقول الشهداء إخواننا قتلوا كما قتلنا ويقول المتوفون إخواننا ماتوا على فراشهم كما متنا فيقول ربنا انظروا إلى جراحهم فإن أبهت جراحهم جراح المقتولين فإنهم منهم فإذا جراحهم قد أشبهت جراحهم.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥١٢
يقول الفقير : دل عليه قوله عليه السلام في الطاعون إنه وخز أعدائكم من الجن والوخز طعن ليس بنافذ والشيطان له ركض وهمز ونفث ونفخ ووخز والجنى إذا وخز العرق من مراق البطن أي مارق منها ولان خرج من وخزه الغدة وهي التي تخرج في اللحم فيكون وخز الجنى سبب الغدة الخارجة فحصل
٥٢١