يقول الفقير : أشار تعالى بالترتيب إلى أن العزة له بالأصالة والدوام وصار الرسول عليه السلام مظهراً له في تلك الصفة ثم صار المؤمنون مظاهر له عليه السلام فيها فعزة الرسول بواسطة عزة الله وعزة المؤمنين بواسطة عزة الرسول سواء أعاصروه عليه السلام أم أتوا بعده إلى ساعة القيام وجميع العزةلأن عزة الله له تعالى صفة وعزة الرسول وعزة المؤمنينفعلاً ومنة وفضلاً كما قال القشيري قدس سره العز الذي للرسول وللمؤمنين هو تعالى حلقاً وملكاً وعزه سبحانه له وصفاً فإذا العزة كلهاوهو الجمع بين قوله تعالى من كان يريد العزة فللّه العزة جميعاً وقوله ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ومن أدب من عرف أنه تعالى هو العزيز أن لا يعتقد لمخلوق إجلالاً ولهذا قال عليه السلام : من توضع لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه قال أبو علي الدقاق رحمه الله إنما قال ثلثا دينه لأن التواضع يكون بثلاثة أشياء بلسانه وبدنه وقلبه فإذا تواضع له بلسانه وبدنه ولم يعتقد له العظمة بقلبه ذهب ثلثا دينه فإن اعتقدها بقلبه أيضاً ذهب كل دينه ولهذا قيل إذا عظم الرب في القلب صغر الخلق في العين ومتى عرفت أنه معز لم تطلب العز إلا منه ولا يكون العز إلا في طاعته قال ذو النون قدس سره لو أراد الخلق أن يثبتوا لأحد عزا فوق ما يثبته يسير طاعته لم يقدروا ولو أرادوا أن يثبتوا لأحد ذلة أكثر مما يثبته اليسير من ذلته ومخالفته لم يقدروا.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٢٩
ـ حكي ـ عن بعضهم أنه قال : رأيت رجلاً في الطواف وبين يديه خدم يطردون الناس ثم رأيته بعد ذلك علس جسر بغداد يتكفف ويسأل فحذقت النظر إليه لأتعرفه هل هو ذلك الرجل أولاً فقال لي مالك تطيل النظر إلي فقلت : إني أشبهك برجل رأيته في الطواف من شأنه كذا وكذا فقال : أنا ذاك إني تكبرت في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني في موضع يترفع فيه الناس ﴿وَلَـاكِنَّ الْمُنَـافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ من فرط جهلهم وغرورهم فيهذون ما يهذون ولعل ختم الآية الأولى بلا يفقهون والثانية بلا يعلمون للتفنن المعتبر في البلاغة مع أن في الأول بيان عدم كياستهم وفهمهم وفي الثاني بيان حماقتهم وجهلهم وفي برهان القرآن الأول متصل بقوله ولله خزائن السموات والأرض وفيه غموض يحتاج إلى فطنة والمنافق لا فطنة له والثاني متصل بقوله ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون أن الله معز أوليائه ومذل أعدائه.
ـ روي ـ أن عبد الله ابن أبي لما أراد أن يدخل المدينة اعترضه ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان مخلصاً وسل سيفه ومنع أباه من الدخول
٥٣٩
وقال : لئن لم تقرولرسوله بالعز لأضربن عنقك فقال : ويحك أفاعل أنت؟ قال : نعم فلما رأى منه الجد قال : أشهدا أن العزةولرسوله وللؤمنين فقال عليه السلام لابنه : جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيراً ولما كان عليه السلام بقرب المدينة هاجت ريح شديدة كادت تدفت الراكب فقال عليه السلام : مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة أي لأجل ذلك عصفت الريح فكان كما قال مات في ذلك اليوم زيد بن رفاعة وكان كهفاً للمنافقين وكان من عظماء بني قينقاع وكان ممن أسلم ظاهراً وإلى ذلك أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله :
وقد عصفت ريح فأخير انها
لموت عظيم في اليهود بطيبة
ولما دخلها ابن أبي لم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات واستغفر له رسول الله وألبسه قميصه فنزل لن يغفر الله لهم وروي أنه مات بعد القفول من غزوة تبوك قال بعض الكبار : ما أمر الله عباده بالرفق بالخلق والشفقة إلا تأسياً به تعالى فيكونون مع الخلق كما كان الحق معهم فينصحونهم ويدلونهم على كل ما يؤدي إلى سعادتهم وليس بيد العبد إلا التبليغ قال تعالى : ما على الرسول إلا البلاغ فعلى العارف إيضاح هذا الطريق الموصل إلى هذا المقام والإفصاح عن دسائسه وليس بيده إعطاء هذا المقام فإٌّ ذلك خاص بالله تعالى قال تعالى : إنك لا تهدي من أحببت فوظيفة الرسل والورثة من العلماء إنما هو التبليغ بالبيان والإفصاح لا غير ذلك وجزاؤهم جواء من أعطى ووهب والدال على الخير كفاعل الخير.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٥٢٩


الصفحة التالية
Icon