﴿أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ قال في بحر العلوم في قوله أكثر دلالة على أنه كان فيهم من قصد بالمحاشاة وهو بالفارسية استثنا كردن.
وعلى قلة العقلاء فيهم قصداً إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل إذا القلة تجري مجرى النفي في كلامهم ويؤيده الحديث السابق فيكون المعنى كلهم لا يقعلون إذ لو كان لهم عقل لما تجاسروا على هذه المرتبة من سوء الأدب بل تأدبوا معه بأن يجلسوا على بابه حتى يخرج إليهم كما قال تعالى الفا :﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا﴾ الصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها ﴿حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ﴾ لو مختص بالفعل على ما ذهب إليه المبرد والزجاج والكوفيون فما بعد لو مرفوع على فاعلية لا على الابتداء على ما قاله سيبويه والمعنى ولو تحقق صبرهم وانتظارهم حتى تخرج إليهم وحتى تفيد أن الصبر ينبغي أن يكون مغياً بخروجه عليه السلام فإنها مختصة بما هو غاية للشيء في نفسه ولذلك تقول : أكلت السمكة حتى رأسها ولا تقول حتى نصفها وثلثها بخلاف إلى فإنها عامة وفي إليهم إشعار بأنه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم ﴿لَكَانَ﴾ أي الصبر المذكور ﴿خَيْرًا لَّهُمْ﴾ من الاستعجال لما فيه من رعاية حسن الأدب وتعظيم الرسول الموجبين للثواب والثناء والإسعاف بالمسئول إذ روى أنهم وفدوا شافعين في أساري بني العنبر قال في القاموس : العنبر أبو حي من تميم قال ابن عباس رضي الله عنهما : بعث رسول الله عليه السلام سرية إلى حي بني العنبر وأمر عليهم عينية بن حصين فلما علموا أنه توجه نحوهم هبروا وتركوا عيالهم فسباهم عيينة وقدم بهم على رسول الله فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري فقدموا وقت الظهيرة ووافقوا رسول الله قائلاً في أهله فلما رأتهم الذراري أجهشوا إلى آبائهم يبكون والإجهاش كريستن راساختن.
يقال : اجهش إليه إذا فزع إليه وهو يريد البكاء كالصبي يفزع إلى أمه وكان لكل امرأة من نساء رسول الله بيت وحجرة فجعلوا ينادون يا محمد اخرج إلينا حتى أيقظوه من نومه فخرج إليهم فقالوا : يا محمد فادنا عيالنا فنزل جبرائيل فقال : إن الله يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلاً فقال عليه السلام لهم : أترضون أن يكون بيني وبينكم سبرة بن عمرو وهو على دينكم قالوا : نعم قال سبرة : أنا لا أحكم بينهم وعمى شاهد وهو أعور بن بشامة بن ضرار فرضوا به فقال الأعور : فأنا أرى أن تفادي نصفهم وتعتق نصفهم فقال عليه السلام : قد رضيت ففادى نصفهم وأعتق نصفهم وقال مقاتل : لكان خيراً لهم لأنك كنت تعتقهم جميعاً وتطلقهم بلا فداء ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ بليغ المغفرة والرحمة واسعهما فلن تضيق ساحتهما عن هؤلاء المسيئين للأدب إن تابوا وأصلحوا قال الكاشفي : والله غفور وخداى تعالى آمرزنده است كسى راكه توبه كند ازبى ادبى رحيم مهربانست باهل ادب كه تعظيم سيد اولوا الألباب ميكنند ه ادب جاذب رحمتست وحرمت جالب نعمت :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٦١
سرمايه ادب بكف آوركه اين متاع
آنراكه هست سوء ادب نايدش بكف
٦٨
وفي هذا المقام أمور :
الأول : أن في هذها لآية تنبيهاً على قدره قدره عليه السلام والتأدت معه بكل حال فهم إنما نادوه لعدم عقل يعرفون به قدره ولو عرفوا قدره لكانوا كما في الخبر يقرعون بابه بالأظافير وفي المناداة إشارة إلى أنهم رأوا من ورأوه من وراء الحجاب ولو كانوا من أهل الحضور والشهود لما نادوه كما قال بعضهم :
كارنادان كوته انديش است
يا دكردن كسى كه دريش است
قال أبو عثمان المغربي قدس سره : الأدب عند الأكابر وفي مجلس السادات من الأولياء يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلي والخير في الأولى والعقبى فكما لا بد من التأدب معه عليه السلام فكذا مع من استن بسنته كالعلما العالمين وكان جماعة من العلماء يجلسون على باب غيرهم ولا يدقون عليه بابه حتى يخرج لقضاء حاجته احتراماً قال أبو عبيدة القاسم بن سلام : ما دققت الباب على عالم قد كنت أصبر حتى يخرج إلي لقوله تعالى : ولو أنهم الخ وفي الحديث أدبني ربي فأحسن تأديبي إلى أدبني أحسن تأديب فالفاء تفسير لما قبله قال بعض الكبار من الحكمة توقير الكبير ورحمة الصغير ومخاطبة الناس باللين وقال إن كان خليلك فوقك فاصحبه بالحرمة وإن كان كفؤك ونظيرك فاصحبه بالوفاء وإن كان دونك فاحصبه بالمرحمة وإن كان عالماً فاحسبه بالخدمة والتعظيم وإن كان جاهلاً فاحصبه بالسياسة وإن كان غنياً فاحصبه بالزهد وإن كان فقيراً فاحصبه بالجود وإن صحبت صوفياً فاحسبه بالتسليم قال بعض الحكماء عاشروا الناي معاشرة إن متم بكوا عليكم وإن غبتم حنوا إليكم.