يقول الفقير : لا شك أن الأصحاب رضي الله عنهم لم يشكوا في أمر النبي عليه السلام ولم يكن كلامهم معه من قبيل الاعتراض عليه وإنما سألوه استعلاماً لما دخلهم شيء مما لا يخلو عنه البشر فإن الأمر عميق وإلا فأدنى مراتب الإرادة في باب الولاية ترك الاعتراض فكيف في باب النبوة ولله تعالى حكم ومصالح في إيراد إنا فتحنا بصيغة الماضي فإنه بظاهره ناطق بفتح الصلح وبحقيقته مشير إلى فتح مكة في الزمان الآتي وكل منهما فتح أي فتح وحاصل ما قال العلماء أنه سمي الصلح فتحاً مع أنه ليس بفتح لا عرفاً لأنه ليس بظفر على البلد ولا لغة لأنه ليس بظفر للمنغلق كيف وقد أحصروا ومنعوا من البيت فنحروا وحلقوا بالحديبية وأي ظفر في ذلك فالجواب أن الصلح مع المشركين فتح بالمعنى اللغوي لأنه كان منغلقاً ومتعذراً وقت نزولهم بالحديبية إلا أنه لما آل الأمر إلى بيعة الرضوان وظهر عند المشركين اتفاق كلمة المؤمنين وصدق عزيمتهم على الجهاد والقتال ضعفوا وخافوا حتى اضطروا إلى طلب الصلح وتحقق بذلك غلبة المسلمين عليهم مع أن ذلك الصلح قد كان سبباً لأمور أخر كانت منغلقة قبل ذلك منها إن المشركين اختلطوا بالمسلمين بسببه فسمعوا كلامهم وتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في مدة قليلة خلق كثير كثر بهم سواد أهل الإسلام حتى قالوا دخل في تلك السنة في الإسلام مثل من دخل فيه قبل ذلك وأكثر وفرغ عليه السلام بهذا الصلح لسائر العرب فغزاهم وفتح مواضع خصوصاً خيبر واغتنم المسلمون واتفقت في تلك السنة ملحمة عظيمة بين الروم وفارس غلبت فيها الروم على فارس وكانت غلبتهم عليهم من دلائل النبوة حيث كان عليه السلام وعد بوقوع تلك الغلبة في بضع سنين وهو ما بين الثلاث إلى التسع فكانت كما وعد بها فظهر بها صدقه عليه السلام فكانت من جملة الفتح وسر به عليه السلام والمؤمنين لظهور أهل الكتاب على المجوس إلى غير ذلك من
فتوحات الله الجليلة ونعمه العظيمة ﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ غاية للفتح من حيث أنه مترتب على سعيه عليه السلام في إعلاء كلمة الله مكابدة مشاق الحروب واقتحام موارد الخطوب قال بعضهم لما لم يظهر وجه تعليل الفتح بالمغفرة جعل الفتح مجازاً مرسلاً عن أسباب الفتح ليغفر لك فالفتح معلول مترتب على الأفعال المؤدية إلى المغفرة وإن المغرفة علة حاملة على تلك الأفعال فصح جعلها علة لما ترتب على تلك الأفعال وهو الفتح وجعل الزمخشري فتح مكة علة للمغفرة وهو أوفق للمذهب الحق لأن أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض على مذهبم فليست اللام على حقيقتها بل هي إما للصيرورة والعاقبة أو لتشبيه مدخولها بالعلة الغائبة في ترتبها على متعلقها وأيضاً أن العلة الغائبة لها جهتا علية ومعلولية على ما تقرر فلا لوم على من نظر إلى جهة المعلولية كالزمخشري لظهور صحته كما في حواشي سعدي المفتي والالتفات إلى اسم الذات المستتبع لجميع الصفات للإشعار بأن كل واحد مما انتظم في سلك الغاية من أفعاله تعالى صادر عنه تعالى من حيثية غير حيثية الآخر مترتبة على صفة من صفاته تعالى قال ابن الشيخ في إظهار فاعل قوله ليغفر لك وينصرك إشعار بأن كل واحد من المغفرة والنصرة متفرع على الألوهية وكونه معبوداً بالحق والمغفرة ستر الذنوب ومحوها قال بعض الكبار : المغفرة أشد عند العارفين من العقوبة لأن العقوبة جزاء فتكون الراحة عقيب الاستيفاء فهو بمنزلة من استوفى حقه والغفران ليس كذلك فإنك تعرف أن الحق عليك متوجه وأنه أنعم عليك بترك المطالبة فلا تزال خجلاً ذا حياء ولهذا إذا غفر الله تعالى للعبد ذنبه أحال بينه وبين تذكره وأنساه إياه وأنه لو تذكره لاستحيى ولا عذاب على النفوس أعظم من الحياء حتى يود صاحب الحياء أنه لم يكن شيئاً كما قالت مريم الكاملة : يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً هذ حياء من المخلوقين فكيف بالحياء من الله تعالى فيما فعل العبد من المخالفات ومن هذا الباب ما حكي أن الفضيل قدس سره وقف في بعض حجاته ولم ينطق بشيء فلما غربت الشمس قال : واسوأتاه وإن عفوت، قال الصائب :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٢
هركز نداد شرم مرا رخصت نكاه
در هجر ووصل روى بديوار داشتم
﴿مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنابِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ أي : جميع ما فرط منك من ترك الأولى وتسميته ذنباً بالنظر إلى منصبه الجليل لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين على ما قاله أبو سعيد الخراز قدس سره : وفي المثنوي :
آنكه عين لطف باشد برعوام
قهر شد برعشق كيشان كرام