يقول الفقير وهو مخالف لما سبق عن ابن مسعود رضي الله عنه فإن قلت ذلك لكونه غير آمر ومأمور قلت : دل قوله تأخذوه به على ولايته من أي وجه كان إذ لا يأخذه إلا الوالي أو وكيله ويجوز أن يقال : لو طلب ابن مسعود خبر الوليد لنفسه للنهي عن المنكر لكان له وجه فلما جاء خبره في صورة السعاية والهتك أعرض عنه أو رأى الستر في حق الوليد أولى فلم يستمع إلى القائل وكان عمر رضي الله عنه يعس ذات ليلة فنظر إلى مصباح من خلل باب فاطلع فإذا قوم على شراب لهم فلم يدر كيف يصنع فدخل المسجد فأخرج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فجاء به إلى الباب فنظر وقال له : كيف ترى أن نعمل فقال : أرى والله أنا قد أتينا ما نهانا الله عنه لأنا تجسسنا واطلعنا على عورة قوم ستروا دوننا وما كان لنا أن نكشف ستر الله فقال : ما أراك إلا قد صدقت فانصرفا فالمحتسب لا يتجسس ولا يتسور ولا يدخل بيتاً بلا إذن فإن قيل ذكر في باب من يظهر البدع في البيوت أنه يجوز للمحتسب الخول بلا إذن فنقول ذلك فيما ظهر وأما إذا خفي فلا يدخل فإن ما ستره الله لا بد وأن يستره العبد هذا في عيوب الغير وأما عيوب النفس فالفحص عنها لازم للإصلاح والتزكي وقد عدوا انكشاف عيوب النفس أولى من الكرامات وخوارق العادات فإنه ما دام لم تحصل التزكي للنفس لا تفيد الكرامة شيئاً بل ربما يوقعها في الكبر والعجب والتطاول فنعوذ بالله تعالى من شرورها وفجورها وغرورها ﴿وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾ الاغتياب غيبت كردن والغيبة بالكسر اسم من الاغتياب وفتح الغين غلط إذ هو بفتحها مصدر بمعنى الغيبوبة والمعنى ولا يذكر بعضكم بعضاً بالسوء في غيبته وخلفه وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنها فقال : أن تذكر أخاك بما يكره فإن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته أي قلت عليه ما لم يفعله والحاصل أن الغيبة والاغتياب هو أن يتكلم إنسان خلف إنسان مستور بما فيه من عيب أي بكلام صادق من غير ضرورة قوية إلى ذكره ولو سمعه لغمه وإن كان ذلك الكلام كذباً يسما بهتاناً وهو الذي يتر الديار بلاقع أي خرابا ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾ انتصاب ميتاً عتلى الحالية من اللحم واللحم المنفصل عن الحي يوصف بأنه ميت لقوله عليه السلام ما أبين من حي فهو ميت وقيل من الأخ على مذهب من يجوز الحال من المضاف إليه مطلقاً وشدده نافع أي قرأ ميتاً بالتشديد والكلام تمثيل وتصوير لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعاً وعقلاً وشرعاً يعني شبه الاغتياب من حيث اشتماله على تناول عرض المغتاب بأكل لحم
٨٧
الإنسان ميتاً تشبيهاً تمثيلياً وعبر بالهيئة المشبه بها عن الهيئة المشبهة ولا شك أن الهيئة المشبه بها أفحش جنس التناول وأقبحه فيكون التمثيل المذكور تصويراً للاغتياب بأقبح الصور وذلك أن الإنسان يتألم قلبه من قرض عرضه كما يتألم جسمه من قطع لحمه بل عرضه أشرف من لحمه ودمه فإذا لم يحسن للعاقل أكل لحوم الناس لم يحسن له قرض عرضهم بالطريق الأولى خصوصاً أن أكل الميتة المتاهى في كراهة النفوس ونفور الطباع ففيه إشارة إلى أن الغيبة عظيمة عند الله وفي قوله ميتاً إشارة إلى دفع وهم وهو أن يقال الشتم في الوجه يؤلم فيحرم وأما الاغتياب فلا اطلاع عليه للمغتاب فلا يؤلمه فكيف يحرم فدفعه بأن أكل لحم الأخ وهو ميت أيضاً لا يؤلمه ومع هذا هو فيي غاية القبح لكونه بمراحل عن رعاية حق الأخوة كذا في حواشي ابن الشيخ.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٦١
يقول الفقير : أن يقال أن الاغتياب وإن لم يكن مؤلماً للمغتاب من حيث عدم اطلاعه عليه لكنه في حكم الإيلام إذ لو سمعه لغمه على أنا نقول أن الميت متألم وإن لم يكن فيه روح كما أن السن وهو الضرس متألم إذا كان وجعاً وإن لم يكن فيه حياة فاعرف ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من التمثيل كأنه قيل وحيث كان الأمر كما ذكر فقد كرهتموه فأضمر كلمة قد لتصحيح دخول الفاء في الجزاء فالمقصود من تحقيق استكراههم وتقذرهم من المشبه به الترغيب والحث على استكراه ما شبه به وهو الغيبة كأنه قيل إذا تحققت كراهتكم له فليتحقق عندكم كراهة نظيره الذي هو الاغتياب ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما صدر عنكم من قبل وهو عطف عتلى ما تقدم من الأوامر والنواهي ﴿إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ مبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة حيث يجعل التائب كمن لم يذنب ولا يخص ذلك بتائب دون تائب بل يعم الجميع وإن كثرت ذنوبهم فصيغة المبالغة باعتبار المتعلقات.