قال في التأويلات النجمية يشير بقوله تعالى : ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى إلى خلق القلوب إنها خلقت من ذكر وهو الروح وأنثى وهي النفس وجعلناكم شعوباً وقبائل أي جعلناها صنفين : صنف منها شعوب وهي التي تميل إلى أمها وهي النفس والغالب عليها صفات النفس وصنف منها قبائل وهي التي تميل إلى أبيها وهو الروح والغالب عليها صفات الروح لتعارفوا أي لتتعارفوا أصحاب القلوب وأرباب النفوس لا لتتكاثروا وتتنافسوا وتباهوا بالعقول والأخلاق الروحانية الطبيعية فإنها ظلمانية لا يصلحج شيء منها للتفاخر به ما لم يقرن به الإيمان والتقوى فإن تنورت الأفعال والأخلاق والأحوال بنور الإيمان والتقوى فلم تكن الأفعال مشوبة بالرياء ولا الأخلاق مصحوبة بالأهواء ولا الأحوال منسوبة إلى الإعجاب فعند ذلك تصلح للتفاخر والمباهاة بها كما قال تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم وقال عليه السلام :"الكرم التقوى فأتاهم من يكون أبعدهم من الأخلاق الإنسانية وأقربهم إلى الأخلاق الربانية والتقوى هو لتحرز والمتقي من يتحرز عن نفسه بربه وهو أكرم على الله من غيره" انتهى.
﴿قَالَتِ الاعْرَابُ ءَامَنَّا﴾ الأعراب أهل البادية وقد سبق تفصيله في سورة الفتح وإلحاق التاء بالفعل المسند إليهم مع خلوه عنها في قوله وقال نسوة في المدينة للدلالة على نقصان عقلهم بخلاهن حيث لمن امرأة العزيز في مراودتها فتاها وذلك يليق بالعقلاء نزلت في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدب فأظهروا الشهادتين فكانوا يقولون لرسول الله عليه السلام : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وأتيناك بالأثقال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك بنوا فلان يرون الصدق ويمنون عليه عليه السلام ما فعلوا ﴿قُلْ﴾ رداً لهم ﴿لَّمْ تُؤْمِنُوا﴾ إذ الإيمان هو التصديق بالله وبرسوله المقارن للثقة بحقيقة المصدق وطمأنينة القلب ولم يحصل لكم ذلك وإلا لما مننتم على ما ذكرتم من الإسلام وترك المقاتلة كما ينبىء عنه آخر السورة يعني أن التصديق الموصوف مسبوق بالعلم بقبح الكفر وشناعة المقاتلة وذلك بأبي المن وترك المقاتلة فإن العاقل لا يمن
٩٢
بترك ما يعلم قبحه ﴿وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ أسلم بمعنى دخل في السلم كأصبح وأمسى وأشتى أي قولوا دخلنا في السلم والصلح والانقياد مخافة أنفسنا فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وإظهار الشهادة وترك المحاربة مشعر به أي بالانقياد والدخول المذكور وإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا أولم تؤمنوا ولكن أسلمتم ليتقابل جملتا الاستدراك للاحتراز عن النهي عن التلفظ بالإيمان فإن ظاهره مستقبح سيما ممن بعث للدعوة إلى القول به وللتفادي عن إخراج قولهم مخرج التسليم والاعتداد به مع كونه تقولاً محضاً قال سعدي المفتي والظاهر أن النظم من الاحتباك حذف من الأول ما يقابل الثاني ومن الثاني ما يقابل الأول والأصل قل لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا ولكن أسلمتم فقولوا أسلمنا وهذا من اختصارات القرآن
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٦١
﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الايمَـانُ فِى قُلُوبِكُمْ﴾ حال من ضمير قولوا أي ولكن قولوا أسلمنا حال عدم مواطأة قلوبكم لألسنتكم وما في لما من معنى التوقع مشعر بأن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد ﴿وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ بالإخلاص وترك النفاق ﴿لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَـالِكُمْ شَيْـاًا﴾ أي لا ينقصكم شيئاً من أجورها من لات يليت ليتا إذا نقص قال الإمام معنى قوله لا يلتكم أنكم إن أتيتم بما يليق بضعفكم من الحسنة المقرونة بالإخلاص وترك النفاق فهو تعالى يأتكم بما يليق بفضله من الجزاء لا ينقص منه نظراً إلى ما في حسناتكم من النقصان والتقصير وهذا لأن من حمل إلى ملك فاكهة طيبة يكون ثمنها في السوق درهماً مثلاً وأعطاه الملك درهماً أو ديناراً انتسب الملك إلى قلة العطاء بل إلى البخل فليس معنى الآية أن يعطي من الجزاء مثل عملكم من غير نقص بل المعنى يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص ويؤيد ما قاله قوله تعالى :﴿أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لما فرط من المطيعين ﴿رَّحِيمٌ﴾ بالتفضل عليهم قال في بحر العلوم في الآية إيذان بأن حقيقة الإيمان التصديق بالقلب وإن الإقرار باللسان وإظهار شرائعه بالإيذان ليس بأيمان.
وفي التأويلات النجمية يشير إلى أن حقيقة الإيمان ليست مما يتناول باللسان بل هو نور يدخل القلوب إذا شرح الله صدر العبد للإسلام كما قال تعالى فهو على نور من ربه وقال عليه السلام في صفة ذلك النور إذا وقع في القلب انفسخ له واتسع قيل يا رسول الله هل لذلك النور علامة يعرف بها؟ قال : بلى التجا في عن دارالغرور والإنابة إلى دار الخلود واستعداد الموت قبل نزوله ولهذا قال تعالى ولما يدخل الإيمان في قلوبكم فهذا دليل على أن محل الإيمان القلب انتهى.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٦١