وفي علم الكلام ذهب جمهور المحققين إلى أن الإيمان التصديق القلب وإنما الإقرار شرط لا جزؤه لإجراء الأحكام في الدنيا كالصلاة عليه في وقت موته لما أن تصديق القلب أمر باطن لا يطلع عليه أحد لا بد له من علامة فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن عند الله لوجود التصديق القلبي وإن لم يكن مؤمناً في أحكام الدنيا لانتفاء شرطه وأما من جعل الإقرار ركناً من الإيمان فعنده لا يكون تارك الإقرار مؤمناً عند الله ولا يستحق النجاة من خلود النار ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق هو مؤمن في أحكام الدنيا وإن لم يكن مؤمناً عند الله وهذا المذكور من أن الإيمان هو التصديق القلبي والإقرار باللسان لإجراء الأحكام هو اختيار الشيخ أبي
٩٣
منصور رحمه الله والنصوص معاضدة لذلك قال الله تعالى : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وقال الله تعالى وقلبه مطمئن بالإيمان وقال الله تعالى ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وقال عليه السلام :"اللهم ثبت قلبي على دينك أي على تصديقك" وقال عليه السلام لعلي رضي الله عنه حين قتل :"من قاللا إله إلا الله هل شققت قلبه" وفي فتح الرحمن حقيقة الإيمان لغة التصديق بما غاب وشرعاً عند أبي حنيفة رحمه الله تصديق بالقلب وعمل باللسان وعند الثلاثة عقد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالأركان فدخل كل الطاعات انتهى قال ابن الملك في شرح المشارق ثم الإقرار باللسان ليس جزء من الإيمان ولا شرطاً له عند بعض علمائنا بل هو شرط لإجراء أحكان المسلمين على المصدق لأن الإيمان عمل القلب وهو لا يحتاج إلى الإقرار وقال بعضهم : إنه جزء منه لدلالة ظواهر النصوص عليه إلا أن الإقرار لما كان جزءاً له شائبة العرضية والتبعية اعتبروا في حالة الاختيار جهة الجزئية حتى لا يكون تاركه مع تمكنه منه مؤمناً عند الله وإن فرض أنه مصدق وفي حالة الاضطرار جهة العرضية فيسقط وهذا معنى قولهم الإقرار ركن زائد إذ لا معنى لزيادته إلا أن يحتمل السقوط عند الإكراه على كلمة الكفر فإن قيل ما الحكمة في جعل عمل جارحة جزء من الإيمان ولم عين به عمل اللسان دون أعمال سائر الأركان قلنا لما اتصف الإنسان بالإيمان وكان التصديق عملاً لباطنه جعل عمل ظاهره داخلاً فيه تحقيقاً لكمال اتصافه به وتعين له فعل اللسان لأنه مجبول للبيان أو لكونه أخف وأبين من عمل سائر الجسد نعم يحكم بإسلام كافر لصلاته بجماعة وإن لم يشاهد إقراره لأن الصلاة المسنونة لا تخلو عنه وقال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام المقدسي : النطق بكلمتي الشهادة واجب فمن علم وجوبها وتمكن من النطق بهما فلم ينطق فيحتمل أن يجعل امتناعه من النطق بهما كامتناعه من الصلاة فيكون مؤمناً غير مخلد في النار لأن الإيمان هو التصديق المحض بالقلب واللسان ترجمانه وهذا هو الأظهر إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان" ولا يعدم الإيمان من القلب بالسكوت عن النطق الواجب كما لا يعدم بترك الفعل الواجب انتهى.
وقال سهل رضي الله عنه : ليس في الإيمان أسباب إنما الأسباب في الإسلام والمسلم محبوب للخلق والمؤمن غني عن الخلق وقال بعض الكبار : المسلم في عموم الشريعة من سلم الناس من لسانه ويده وفي خصوصها من سلم كل شيء من لسانه بما يعبر عنه ويده فيما له فيه نفوذ اقتدار والمؤمن منور الباطن وإن عصى والكافر مظلم الباطن وإن أتى بمكارم الأخلاق ومن قال أنا مؤمن إن شاء الله فما عرف الله كما ينبغي وقال بعض الكبار : كل من آمن عن دليل فلا وثوق بإيمانه لأنه نظري لا ضروري فهو معرض للشبه القادحة فيه بخلاف الإيمان الضروري الذي يجده المؤمن في قلبه ولا يقدر على دفعه وكذا القول في كل علم حصل عن نظر وفكر فإنه مدخول لا يسلم من دخول الشبه عليه ولا من الحيرة فيه ولا من القدح في الأمر الموصل إليه ولا بد لكل محجوب من التقليد فمن أراد العلم الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فليكثر من الطاعات والنوافل حتى يحبه الحق فيعرف الله بالله ويعرف جميع أحكام الشريعة بالله لا بعقله ومن لم يكثر مما ذكر
٩٤
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٦١


الصفحة التالية
Icon