فليقلد ربه فيما أخبر ولا يؤول فإنه أولى من تقليد العقل ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ أي آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ولا اتهام لمن صدقوه واعترفوا بأن الحق معه من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك في الخبر مع التهمة للمخبر فظهر الفرق بين الريب والشك فإن الشك تردد بين نقيضين لا تهمة فيه وفيه إشارة إلى أن فيهم ما يوجب نفي الإيمان عنهم وهو الاتياب وثم للإشعار بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس في حال إنشائه فقط بل وفيما يستقبل فهي كما في قوله تعالى ثم استقاموا ﴿وَجَـاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في طاعته على تكثير فنونها من العبادات البدنية المحضة والمالية الصرفة والمشتملة عليهما معاً كالحج والجهاد ﴿أولئك﴾ الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجميلة ﴿هُمُ الصَّـادِقُونَ﴾ أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا غيرهم فهو قصر أفراد وتكذيب لأعراب بني أسد حيث اعتقدوا الشركة وزعموا أنهم صادقون أيضاً في دعوى الإيمان.
واعلم أن الآية الكريمة شاملة لمجامع القوى التي وجب على كل أحد تهذيبها وأصلاحها تظهيراً لنفسه الحاصل به الفوز بالفلاح والسعادة كلها كما قال تعالى : قد أفلح من زكاها وهي قوة التفكر وقوة الشهوة وقوة الغضب اللاتي إذا أصلحت ثلاثتها وضبطت حصل العدل الذي قامت به السموات والأرض فإنها جميع مكارم الشريعة وتزكية النفس وحسن الخلق المحمود ولأصالة الأولى وجلالتها قدمت على الأخيرتين فدل بالإيمان بالله ورسوله مع نفي الارتياب على العلم اليقيني والحكمة الحقيقية التي لا يتصور حصولها إلا بإصلاح قوة التفكر ودل بالمجاهدة بالأموال على العفة والجود التابعين بالضرورة لإصلاح قوة الشهوة وبالمجاهدة بالأنفس على الشجاعة والحلم التابعين لإصلاح قوة الحمية الغضبي وقهرها وإسلامها للدين وعليه دل قوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين فإن العفو عمن ظلم هو كمال الحلم والشجاعة وإعطاء من حرم كمال العفة والجود ووصل من قطع كمال الفضلة والإحسان.
واعلم أيضاً أن جميع كمالات النفس الإنسانية محصورة في القوى الثلاث وفضائلها الأربع إذ العقل كماله العلم والعفة كالها الورع والشجاعة كمالها المجاهدة والعدل كماله الإنصاف وهي أصول الدين على التحقيق وفي الآية رد للدعوى وحث على الاتصاف بالصدق قال بعضهم : لولا الدعاوى ما خلقت المهاوي فمن ادعى فقد هوى فيها وإن كان صادقاً ألا تراه يطالب بالبرهان ولو لم يدع ما طولب بدليل.
قال الحافظ :
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٦١
حديث مدعيان وخيال همكاران
همان حكايت زرد وزو بور يابافست
وفي الحديث يا أبا بكر عليك بصدق الحدث والوفاء بالعهد وحفظ الأمانة فإنها وصية الأنبياء.
قال الحافظ :
طريق صدق بياموز ازاب صافي دل
بر استى طلب آزادكى وسر ومن
وأتى رسول الله التجار فقال : يا معشر التجار إن الله باعثكم يوم القيامة فجاراً إلا من صدق ووصل وأدى الأمانة وفي الحديث التجار هم الفجار قيل ولم يا رسول الله وقد أحل الله البيع فقال : لأنهم يحلفون فيأثمون ويتحدثون فيكذبون.
قال الصائب :
٩٥
كعبه دركام نخستين كند استقبالت
از سر صدق اكر همنفس دل باشى
فإذا صدق الباطن صدق الظاهر إذ كل إناء يترشح بما فيه وكل أحد يظهر ما فيه بفيه ﴿قُلْ﴾.
ـ روي ـ أنه لما نزلت الآية السابقة جاء الأعراب وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون فنزل لتكذيبهم قله تعالى : قل يا محمد لهم :﴿أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ﴾ دخلت الباء لأن هذا التعليم بمعنى الإعلام والإخبار أي أتخبرون الله بدينكم الذي أنتم عليه بقولكم آمنا والتعبير عنه بالتعليم لغاية تشنيعهم والاستفهام فيه للتوبيخ والإنكار أي لا تعرفوا الله بدينكم فإنه عالم به لا يخفى عليه شيء وفيه إشارة إلى أن التوقيف في الأمور الدينية معتبر واجب وحقيقتها موكولة إلى الله فالأسامي منه تؤخذ والكلام منه يطلب وأمره يتبع ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـاوَاتِ وَمَا فِى الأرْضِ﴾ حال من فاعل تعلمون مؤكدة لتشنيعهم ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لا يحتاج إلى إخباركم تذييل مقرر لما قبله أي مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان وفيه مزيد تجهيل وتوبيخ لهم حيث كانوا يجتهدون في ستر أحوالهم وإخفائها.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٦١


الصفحة التالية
Icon