بتصفية باطنه ليستعد للوصول وإنما الوصول هو أن ينكشف له جلية الحق ويصير مستغرقاً به فإن نظر إلى معرفته فلا يعرف إلا الله وإن نظر إلى همه فلا هم له سواه فيكون كله مشغولاً بكله مشاهدة وهما لا يلتفت في ذلك إلى نفسه ليعمر ظاهره بالعبادة وباطنه بتهذيب الأخلاق وكل ذلك طهارة وهي البدائة وإنما النهاية أن ينسلخ عن نفسه بالكلية ويتجرد له فيكون كأنه هو وذلك هو الوصول كما في شرح الأسماء الحسنى للإمام الغزالي رحمه الله ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ﴾ منصوب باذكر وهو أولى لبقاء قوله ونحن الخ على إطلاقه أو بما في أقرب من معنى الفعل والتلقي الأخذ والتلقن بالحفظ والكتابة والمعنى أنه لطيف يتوصل علمه ءلى ما لا شيء أخفى منه وهو أقرب إلى الإنسان من كل قريب حين يتلقى ويتلقن ويأخذ الحفيظان أي الملكان الموكلان بالإنسان ما يتلفظ به وفيه أي على الوجه الثاني إيذان بأنه تعالى غني عن استحفاظهما لإحاطة علمه بما يخفى عليهما وإنما ذلك لما في كتبهما وحفظهما لأعمال العبد وعرض صحائفهما يوم يقوم الإشهاد وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطته تعالى بتفاصيل أحواله خبراً من زيادة اللطف له في الكف عن السيئات والرغبة في الحسنات وعنه عليه السلام أن مقعد ملكيك على ثنيتيك ولسانك قلمهما وريقك مدادهما وأنت تجري فيما لا يعينك لا تستحي من الله ولا منهما وقد جوز أن يكون تلقي الملكين بياناً للقرب على معنى أنا أقرب إليه مطلعون على أعماله لأن حفظتنا وكتبتنا موكلون به ﴿عَنِ الْيَمِينِ﴾ هو أشرف الجوارح وفيه القوة التامة ﴿وَعَنِ الشِّمَالِ﴾ هو مقابل اليمين
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٩٩
﴿قَعِيدٌ﴾ أي عن جانب اليمين قعيد أي مقاعد كالجليس بمعنى المجالس لفظاً ومعنى فحذف الأول لدلالة لا الثاني عليه وقيل يطلق الفعيل على الواحد والمعتدد كما في قوله والملائكة بعد ذلك ظهير ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ﴾ ما يرمى به من فيه من خير أو شر والقول أعم من الكلمة والكلام ﴿إِلا لَدَيْهِ﴾ مكر نزديك أو ﴿رَقِيبٌ﴾ ملك يرقب قوله ذلك ويكتبه فإن كان خيراً فهو صاحب فاليمين بعينه وإلا فهو صاحب الشمال ﴿عَتِيدٌ﴾ ءلى معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر فهو حاضر أينما كان وبالفارسية رقيب نكهباني وديده بانى بود عتيد آماده في الحال نويسد.
والافراد حيث لم يقل رقيبان عتيدان مع وقوفهما معاً على ما صدر عنه لما أن كلاً منهما رقيب لما فوض إليه لا لما فوض إلى صاحبه كما ينبىء عنه قوله تعالى عتيد وتخصيص القول بالذكر لإثبات الحكم في الفعل بدلالة النص واختلف فيما يكتبانه فقيل يكتبان كل شيء حتى أتيته في مرضه وقيل إنما يكتبان ما فيه أجر ووزر وهو الأظهر كما ينبىء عنه قوله عليه السلام كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل وكاتب الحسنات أمير أمين على كاتبالسيئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشراً وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر قيل إن الملائكة يجتنبون الإنسان عند غائطه وعند جماعة لذاكره الكلام في الخلاء وعند قضاء الحاجة أشد كراهة لأن الحفظة تتأذى بالحضور في ذلك الموضع الكريه لأجل كتابة الكلام فإن سلم عليه في هذه الحالة قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله : يرد السلام بقلبه لا بلسانه لئلا يلزم كتابة الملائكة
١١٥
فإنهم لا يكتبون الأمور القلبية وكذا يحمد الله بقلبه عند العطاس في بيت الخلاء وكذا يكره الكلام عند الجماع وكذا الضحك في هذه الحالة فلا بد من حفظ اللسان وفي الحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه :
ابلهى از صرفه زر ميكنى
صرفه كفتار كن ار ميكنى
مصلحت تست زبان زيركام
تيغ سنديده بود درنيام
وفي الحديث أن ملائك الليل وملائكة النهار يصلون معكم العصر فتصعد ملائكة النهار وتمكث ملائكة الليل فإذا كان الفجر نزل ملائكة النهار ويصلون الصبح فتصعد ملائكة الليل وتمكث ملائكة النهار وما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا فيرى الله في أول الصحيفة خيراً وفي آخرها خيراً إلا قال الملائكة اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة كما في كشف الأسرار وفي الحديث نظفوا لثاتكم جمع لثة بالكسر وفتح الثاء المخففة وهي اللحمة التي فوق الأسنان ودون الأسنان وهي منابتها والعمور اللحمة القليلة بين السنين وأحدها عمر بفتح العين فأمر بتنظيفها لئلا يبقى فيها وضر الطعام فتتغير منه النكهة وتتنكر الرائحة ويتأذى المكان لأنه طريق القرآن ومقعد الملكين عندنا بيه.
جزء : ٩ رقم الصفحة : ٩٩


الصفحة التالية
Icon