فإنه لما قال (اهدنا الصراط المستقيم) فكأن الذهن طلب المعرفة ما إذا كان هذا الصراط مختصاً بنا أم سلكه غيرنا ممن هداه الله فقال: (صراط الذين أنعمت عليهم)؛ وهذا كما إذا دللت رجلاً على طريق لا يعرفها وأردت توكيد الدلالة وتحريضه على لزومها وأن لا يفارقها فأنت تقول: هذه الطريق الموصلة إلى مقصودك، ثم تزيد ذلك عنده توكيداً وتقوية فتقول: وهي الطريق التي سلكها الناس والمسافرون وأهل النجاة؛ أفلا ترى كيف أفاد وصفك لها بأنها طريق السالكين الناجين قدراً زائداً على وصفك لها بأنها طريق موصلة وقريبة سهلة مستقيمة فإن النفوس مجبولة على التأسي والمتابعة فإذا ذكر لها من تتأسى به في سلوكها أنست واقتحمتها فتأمله).
الفصل الثاني والستون
في بيان أفضلية استعمال (غير) في قوله تعالى (غير المغضوب) على (لا)
قال ابن القيم في (بدائع الفوائد) (٢/٢٦١-٢٦٢) جواباً على هذا السؤال: (لم وصفهم بلفظ (غير) وهلا قال تعالى (لا المغضوب عليهم) كما قال و ([لا] الضالين)؛ وهذا كما تقول: مررت بزيد لا عمرو وبالعاقل لا الأحمق)؟
(لا ريب أن (لا) يعطف بها بعد الإيجاب كما تقول: جاءني زيد لا عمرو، وجاءني العالم لا الجاهل؛ وأما غير فهي تابع لما قبلها، وهي صفة ليس إلا، كما سيأتي.
وإخراج الكلام هنا مخرج الصفة أحسن من إخراجه مخرج العطف، وهذا إنما يعلم إذا عرف فرق ما بين العطف في هذا الموضع والوصف؛ فنقول: لو أخرج الكلام مخرج العطف وقيل (صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم) لم يكن في العطف بها أكثر من نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم كما هو مقتضى العطف فإنك إذا قلت: جاءني العالم لا الجاهل لم يكن في العطف أكثر من نفي المجيء عن الجاهل وإثباته للعالم؛ وأما الإتيان بلفظ غير فهي صفة لما قبلها فأفاد الكلام معها وصفهم بشيئين:
أحدهما: أنهم منعم عليهم.
والثاني: أنهم غير مغضوب عليهم.