(ومن هذا الباب ذكر الرياح في القرآن جمعا ومفردة فحيث كانت في سياق الرحمة أتت مجموعة وحيث وقعت في سياق العذاب أتت مفردة وسر ذلك أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والمهاب والمنافع وإذا هاجت منها ريح أنشأ لها مما يقابلها ما يكسر سورتها ويصدم حدتها فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات فكل ريح منها في مقابلها ما يعدلها ويرد سَورتها، فكانت في الرحمة ريحاً؛ وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد وحمام واحد لا يقوم لها شيء ولا يعارضها غيرها حتى تنتهي إلى حيث أمرت لا يرد سورتها ولا يكسر شرتها فتمتثل ما أمرت به وتصيب ما أرسلت إليه ولهذا وصف سبحانه الريح التي أرسلها على عاد بأنها عقيم فقال: (أرسلنا عليهم الريح العقيم) [الذاريات ٤١] وهي التي لا تلقح ولا خير فيها والتي تعقم ما مرت عليه.
ثم تأمل كيف اطرد هذا إلا في قوله في سورة يونس (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم(١) بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف) [يونس ٢٢] فذكر ريح الرحمة الطيبة بلفظ الإفراد لأن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد سيرها، فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت فهو سبب الهلاك فالمطلوب هناك ريح واحدة لا رياح.
وأكد هذا المعنى بوصفها بالطيب دفعاً لتوهم أن تكون ريحاً عاصفة بل هي مما يفرح بها لطيبها).
وقال ابن القيم في نهاية ذلك الفصل وقد ذكر فيه مسائل مهمة من أسرار التعبير القرآني:

(١) هذا الالتفات لعل معناه أن جريان السفينة بالناس بريح طيبة تكون في الغالب سبباً في غفلتهم عن ذكر الله ودعائه وفي نسيان ضرورتهم إلى عونه وتوفيقه وفي غيبتهم عن ذلك كله فخاطبهم خطاب الغائبين، وهذا من بلاغة الالتفات.


الصفحة التالية
Icon