وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيشربون الفعل المتعدى به معناه.
هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل لا يقيمون الحرف مقام الحرف؛ وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن.
وهذا نحو قوله تعالى (عيناً يشرب بها عباد الله) [الإنسان ٦] فإنهم يضمنون يشرب معنى يروي فيعدونه بالباء التي تطلبها، فيكون في ذلك دليل على الفعلين؛ أحدهما بالتصريح به والثاني بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الإختصار؛ وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها.
ومنه قوله في السحاب: شربن بماء البحر حتى روين، ثم ترفعن وصعدن.
وهذا أحسن من أن يقال: يشرب منها، فإنه لا دلالة فيه على الري، وأن يقال: يروى بها، لأنه لا يدل على الشرب بصريحه، بل باللزوم، فإذا قال: يشرب بها دل على الشرب بصريحه وعلى الري بخلاف الباء(١) فتأمله.
ومن هذا قوله تعالى (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه) [الحج ٢٥]، وفعل الإرادة لا يتعدى بالباء ولكن ضمن معنى يهمّ فيه بكذا، وهو أبلغ من الإرادة، فكان في ذكر الباء إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة وإن لم تكن جازمة.
وهذا باب واسع لو تتبعناه لطال الكلام فيه؛ ويكفي المثالان المذكوران.
فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى عدي بإلى تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة فأتى بحرف الغاية ومتى عدي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب فأتى باللام الدالة على الاختصاص والتعيين؛ فإذا قلت هديته لكذا فهم معنى ذكرته له وجعلته له وهيأته ونحو هذا؛ وإذا تعدى بنفسه تضمن المعنى الجامع لذلك كله وهو التعر[يـ]ـف والبيان والإلهام.