الفاعل في (نعبد) هو ضمير جماعة المتكلمين والقارئ واحد؛ وقد تقدم في الفصل السابق بعض ما يدخل في هذا الفصل؛ وهنا ألخص ما تقدم وأضيف إليه ما يتممه؛ فالحاصل أن في ذلك أنواع من البلاغة:
الأول: أن المراد: أعبدك أنا ومن يعبدك من أخوتي المؤمنين ممن تقدمت عبادته أو ستأتي؛ ففيه مزيد من التعظيم لله.
الثاني: في هذا التعبير تواضع من العبد وذل واعتراف بالتقصير؛ فهو يرى أنه ليس أهلاً لعبادة الله ويرى عبادته قاصرة ضعيفة فيتكثر بعبادة إخوته من المؤمنين.
الثالث: يشير هذا التعبير إلى أن العبد عابد لله تعالى على طريقة غيره من أهل العبادة المرضية؛ فهو لا يشذ عنهم بما لا يجوز ولا يتفرد بما لا يقبل من عبادة مبتدعة ونحوها.
الرابع: يحتمل - ولكن على بعد - أن يكون في هذا التعبير شيء من التعظيم للنفس، ولكنه تعظيم مقصود منضبط، يراد به تعظيم شأن العبادة ومن ثم تعظيم الله تبارك وتعالى؛ فكأن العبد يقول: أنا مع اعتدادي بنفسي وعدم ذلي لأحد وعدم خضوعي لغيري من الناس ولكني ذليل بين يدك ضعيف أمام قدرتك أخلص لك العبادة وأستعين بك فيها وفي كل شؤوني.
وهذا جمع بخلاف (وأشهد أن لا إله إلا الله) في الشهادتين والتشهد وخطبة الحاجة وغيرهما؛ فإن العبد لا يشهد في هذه الأمور الخطيرة إلا عن نفسه.
الفصل التاسع والعشرون
في بيان معنى الالتفات الواقع في نظم الفاتحة
وقع في الفاتحة التفات من صيغة الغيبة إلى صيغة الخطاب وذلك عند قوله تعالى (إياك نعبد)؛ فقوله تعالى (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) أسلوبها الغَيبة، و (إياك نعبد) إلى آخر السورة أسلوبها الخطاب؛ فالغيبة للتعظيم والذل والجهل؛ والخطاب للخوف واللجأ والحب؛ وللالتفات هنا معنيان:


الصفحة التالية
Icon