الثالث: أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه وتحقيره وتصغير شأنه ما ليس في ذكر فاعل النعمة من إكرام المنعم عليه والإشادة بذكره ورفع قدره ما ليس في حذفه ؛ فإذا رأيت من قد أكرمه ملك وشرفه ورفع قدره؛ فقلت: هذا الذي أكرمه الملك وخلع عليه وشرفه وأعطاه كان أعلى في حقه وأظهر لمنزلته من أن تقول: هذا الذي أكرم وخلع عليه وشرف وأعطي.
الرابع: أن من تركه الله وشيطانه فهو ضال؛ وأما الهداية فلا تحصل إلا بفعل الله تبارك وتعالى؛ فأصل النعمة من الله وأصل الضلال هم سببه والغضب حالة فرعية؛ ففي السياق احتباك.
وقال ابن القيم في (بدائع الفوائد) (٢/٢٥٦-٢٥٨) في الجواب عن هاتين المسألتين (ما الحكمة في التعبير عنهم بلفظ الذين مع صلتها دون أن يقال المنعم عليهم وهو أخصر كما قال المغضوب عليهم وما الفرق)؟ و (لم فرق بين المنعم عليهم والمغضوب عليهم فقال في أهل النعمة: الذين أنعمت، وفي أهل الغضب: المغضوب، بحذف الفاعل) بعد أن ذكر أن جواب المسألتين واحد، وأن فيه فوائد عديدة:
إحداها: أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن الكريم وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه ولا يبنى الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبنى الفعل معها للمفعول أدباً في الخطاب، وإضافة؟؟ إلى الله تعالى أشرف قسمي أفعاله؛ فمنه هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها ولما ذكر الغضب حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول فقال: (المغضوب عليهم) وقال في الإحسان (الذين أنعمت عليهم).
ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه (الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين) [الشعراء ٧٨-٨٠] فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى؛ ولما جاء إلى ذكر المرض قال: (وإذا مرضت ولم يقل أمرضني وقال فهو يشفين).