ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً) [الجن ١٠] فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول.
ومنه قول الخضر عليه الصلاة والسلام في السفينة (فأردت أن أعيبها) فأضاف العيب إلى نفسه؛ وقال في الغلامين (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما) [الكهف ٨٢].
ومنه قوله تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) [البقرة ١٨٧] فحذف الفاعل وبناه للمفعول، وقال: (وأحل الله البيع وحرم الربا)(١) [البقرة ٢٧٥] لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه [لعلها معه] أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل؛ ومنه (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) [المائدة ٣] وقوله (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً) [الأنعام ١٥١] إلى آخرها.
ومنه وهو ألطف من هذا وأدق معنى قوله (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم) [النساء ٣٣] إلى آخرها؛ ثم قال (وأحل لكم ما وراء ذلكم) [النساء ٢٤].
وتأمل قوله (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) [النساء ١٦] كيف صرح بفاعل التحريم في هذا الموضع وقال في حق المؤمنين (حرمت عليكم الميتة والدم).
الفائدة الثانية: أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها وأصل الشكر ذكر المنعم والعمل بطاعته، وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر، وكان في قوله (أنعمتَ عليهم) من ذكره وإضافة النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله؛ فضمن هذا اللفظ الأصلين، وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) [البقرة ١٥٢].

(١) وإذا حرم الله ما فيه مضرة أو لا تقبله الفطرة نسب التحريم إلى نفسه إلا أن يكون في السياق ما يقتضي خلاف ذلك، أعني ما يرجح البناء للمفعول.


الصفحة التالية
Icon