وقد ترافق هذا العجز أيضا ـ عند الفقهاء المتأخرين ـ فى القدرة عن تعدية الرؤية حتى فى الإتيان بمثال غير ما أتى به الأقدمون، والمعروف أن الحكم التشريعى إنما يجئ ثمرة للوجود والبناء الإسلامى. بمعنى أن الحكم التشريعى لا ينشئ المسلم، ولا ينشئ المجتمع، وإنما ينظمه ويحميه.. ولعل ذلك كان سبب تأخر الآيات التشريعية إلى الفترة المدنية لتكون ثمرة لوجود فرد وجماعة وأمة وحضارة.. أما أن يكون الحكم التشريعى هو الأول والآخر، فأعتقد أنه منهج خاطئ فى النظر إلى القرآن والتعامل معه، على أهمية الفقه التشريعى، وأهمية معرفة الحلال والحرام. لقد أصبح كل شىء يفسر من خلال الحكم التشريعى، فالسيرة تقرأ على أساس أنها فقه، وتغيب عن الدارسين كل المعانى المطلوبة فى التربية بالقدوة وأبعاد التأسى المطلوبة، لتصبح فقه السيرة، وفقه الحديث، وفقه الكتاب، وفقه السنة، وليس الفقه بمعناه العام وإنما بمعناه التشريعى. وتقدم الفقه التشريعى، وتقدم، حتى أصبح تجريدا ذهنيا جامدا بعيدا عن واقع الأمة غير قادر على قيادة حركة الحياة والأحياء.. وأرى فى ذلك انقلاب الوسائل غايات. لقد غلبت الآلية إلى درجة كادت تغيب معها مقاصد الشريعة، فكان البحث عن المقاصد والموافقات للشاطبى، وكان العدول عن القياس إلى الاستحسان، وما إلى ذلك.. ولعل هذا التبحر فى الحكم التشريعى الفقهى جاء على حساب بقية الجوانب الأخرى الكثيرة والضرورية، فالقرآن كتاب فقه حياة، بكل أبعادها، وليس كتاب فقه بالمعنى المحدود. لذلك بات لا يرى كثير من المسلمين اليوم فى تطبيق الشريعة إلا تطبيق الأحكام الفقهية: تطبيق الحدود، وتحريم المصارف الربوية، بينما يصعب عليهم إبصار بقية جوانب الحياة الأخرى من خلال المناخ الثقافى الإسلامى الذى نعانى منه.. انفصال العلم عن الحكم: أنا لا أشك فى أن الفقه الإسلامى تأثر بانحراف الحكم فى العالم الإسلامى، و يمكن أن أتصور الأمر على النحو الآتى: كانت