صفحة رقم ١٧١
استزلّهم ) أي طلب زللهم عن ذلك المقام العالي ) الشيطان ) أي عدوهم البعيد من الرحمة المحترق باللعنة ) ببعض ما كسبوا ) أي من الذنوب التي لا تليق بمن طلب الدنو إلى حضران القدس ومواطن الأنس من ترك المركز والإقبال على الغنيمة وغير ذلك، فإن القتال في الجهاد إنما هو بالأعمال، فمن كان أصبر في أعمال الطاعة كان أجلد على قتال الكفار، ولم يكن توليهم عن ضعف في نفس الأمر.
ولما كان ذلك مفهماً أن الذين تولوا صاروا من حزب الشيطان فاستحقوا ما استحق ألصق به قوله :( ولقد عفا الله ) أي الذي له صفات الكمال ) عنهم ( لئلا تطير أفئدة المؤمنين منهم، وختم ذلك ببيان علته مما هو أهله من الغفران والحلم فقال معيداً للاسم الأعظم تنبيهاً على أن الذنب عظيم والخطر بسببه جسيم، فلولا الاشتمال على جميع صفات الكمال لعوجلوا بأعظم النكال :( إن الله غفور ) أي محاء للذنوب عيناً وأثراً.
ولما كان الغفر قد يكون مع تحمل نفاه بقوله :( حليم ) أي حيث لم يعامل المتولين حذر الموت معاملة الذين خرجوا من ديارهم - كما تقدم - حذر الموت، فقال لهم الله : موتوا.
ولما كان قولهم : إنا لو ثبتنا في المدينة الممثلة بالدرع الحصينة - ( كما كان رأي رسول الله ( ﷺ ) والأكابر من أصحابه ) لسلمنا، إلى غير ذلك مما أشار سبحانه وتعالى إليه قولاً موجباً لغيظ رسول الله ( ﷺ ).
لما فيه من الاتهام وسوء العقيدة، وكان مع ذلك مظنة لأن يخدع كثيراً من أهل الطاعة لشدة حبهم لمن قتل منهم وتعاظم أسفهم عليهم.
كان أنسب الأشياء المبادرة إلى الوعظ بما يزيل هذا الأثر، ولما كان الرسول ( ﷺ ) مؤيداً بأعظم الثبات لما طبع عليه من الشيم الطاهرة والمحاسن الظاهرة كان الأنسب البداءة بغيره، فنهى الذين آمنوا عن الانخداع بأقوالهم فقال تعالى :( ياأيها الذين آمنوا ) أي أظهروا الإقرار بالإيمان صدقوا قولكم بأن ) لا تكونوا كالذين كفروا ) أي بقلوبهم على وجه الستر ) وقالوا ) أي ما فضحهم ) لإخوانهم ) أي لأجل إخوانهم الأعزة عليهم نسباً أو مذهباً ) إذا ضربوا ) أي سافروا مطلق سفر ) في الأرض ) أي لمتجر غازٍ، فماتوا أو قتلوا ) لو كانوا عندنا ( ي لم يفارقونا ) ما ماتوا وما قتلوا ( وهذا في غاية التهكم بهم، لأن إطلاق هذا القول منهم - لا سيما على هذا التأكيد - يلزم منه ادعاء أنه لا يموت أحد في المدينة، وهو لا يقوله عاقل.