صفحة رقم ٣٠٤
ولما كانت الهجرة شديدة، وكان ربما تركها بعض الأقوياء واعتل بالضعف، وربما ظن القادر مع المشقة أنه ليس بقادر ؛ نفر من ذلك بالإشارة إليهم بأداة البعد فقال :( فأولئك ( ولما كان الله سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء، لا يجب عليه شيء ولا يقبح منه شيء، بل له أن يعذب الطائع وينعم العاصي، ويفعل ويقول ما يشاء
٧٧ ( ) لا يسأل عما يفعل ( ) ٧
[ الأنبياء : ٢٣ ] أحل هؤلاء المعذورين محل الرجاء إيذاناً بأن ترك الهجرة في غاية الخطر فقال :( عسى الله ) أي ولو آخذهم لكان له ذلك، وكل ما جاء في القرآن من نحو هذا فهو للإشارة إلى هذا المعنى، وقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إن عسى من الله واجبة، معناه أنه مع أن له أن يفعل ما يشاء لا يفعل إلا ما يقتضيه الحكمة على ما يستصوبه منهاج العقل السليم ) وكان الله ) أي الملك الذي له كل شيء فلا اعتراض عليه أزلاً وأبداً ) عفواً ) أي يمحو الذنب إذا أراد فلا يعاقب عليه وقد يعاتب عليه ) غفوراً ) أي يزيل أثره أصلاً ورأساً بحيث لا يعاقب عليه ولا يعاتب ولا يكون بحيث يذكر أصلاً، ولعل العفو راجع إلى الرجال، والغفران إلى النساء والولدان.
ولما رهب من ترك الهجرة، رغب فيها بما يسلي عما قد يوسوس به لاشيطان من أنه لو فارق رفاهية الوطن وقع في شدة الغربة، وأنه ربما تجشم المشقة فاخترم قبل بلوغ القصد، فقال تعالى :( ومن يهاجر ) أي يوقع الهجرة لكل ما أمر الله سبحانه وتعالى ورسوله ( ﷺ ) بهجرته ) في سبيل الله ) أي الذي لا أعظم من ملكه ولا أوضح من سبيله ولا أوسع ) يجد في الأرض ) أي في ذات الطول والعرض ) مرغماً ) أي مهرباً ومذهباً ومضطرباً يكون موضعاً للمراغمة، يغضب الأعداء به ويرغم أنوفهم بسبب ما يحصل له من الرفق وحسن الحال، فيخجل مما جروه من سوء معاملتهم له ؛ من الرغم وهو الذل والهوان، وأصله : لصوق الأنف بالرغام وهو التراب، تقول : راغمت لفلاناً، أي هجرته وهو يكره مفارقتك لذلة تلحقه بذلك.
ولما كان ذلك الموضع وإن كان وأحداً فغ، ه لكبره ذو أجزاء عديدة، وصف بما يقتضي العدد فقال ) كثيراً (.
ولما كانت المراغمة لذة الروح، فكانت أعز من لذة البدن فقدمها ؛ أتبعها قوله :( وسعة ) أي في الرزق، كما قال ( ﷺ ) ( صوموا تصحوا وسافروا تغنموا ) أخرجه


الصفحة التالية
Icon