صفحة رقم ٣٤٣
أضلوا المنافقين بما يلقون إليهم من الشبه التي وسَّعَ عقولهم لها ما أنعم به عليهم سبحانه وتعالى من العلم، فأبدوا الشر وكتموا الخير، فوضعوا نعمته حيث يكره، ثم كشف سبحانه وتعالى بعض شببهم، فقال مبيناً لما افتتح به قصصهم من أنهم اشتروا الضلالة بالهدى، ويريدون ضلال غيرهم، بعد أن كان ختم هناك ما قبل قصصهم بقوله عفواً قديراً :( إن الذين يكفرون ) أي يسترون ما عندهم من العلم ) بالله ) أي الذي له الاختصاص بالجلال والجمال ) ورسله (.
ولما ذكر آخر أمرهم ذكر السبب الموقع فيه فقال :( ويريدون أن يفرقوا بين الله ) أي الذي له الأمر كله، ولا أمر لأحد معه ) ورسله ) أي فيصدقون بالله ويكذبون ببعض الرسل فينفون رسالاتهم، المستلزم لنسبتهم إلى الكذب على الله المقتضي لكون الله سبحانه وتعالى بريئاً منهم.
ولما ذكر الإرادة ذكر ما نشأ عنها فقال :( ويقولون نؤمن ببعض ) أي من الله ورسله كاليهود الذين آمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام وغيره إلا عيسى ومحمداً ( ﷺ ) فكفروا بهما ) ونكفر ببعض ) أي من ذلك وهم الرسل كمحمد ( ﷺ ) ) ويريدون أن يتخذوا ) أي يتكلفوا أن يأخذوا ) بين ذلك ) أي الإيمان والكفر ) سبيلاً ) أي طريقاً يكفرون به، وعطف الجمل بالواو - وإن كان بعضها سبباً لبعض - إشارة إلى أنهم جديرون بالوصف بكل منها على انفراده، وأن كل خصلة كافية في نسبة الكفر إليهم، وقدم نتيجتها، وختم بالحكم بها على وجه أضخم، تفظيعاً لحالهم، وأصل الكلام : أرادوا سبيلاً بين سبيلين، فقالوا : نكفر ببعض، فأروادوا التفرقة، فكفروا كفراً هو في غاية الشناعة على علم منهم، فأنتج ذلك :( أولئك ) أي البعداء البغضاء ) هم الكافرون ) أي الغريقون في الكفر ) حقاً ( ولزمهم الكفر بالجميع لأن الدليل على نبوة البعض لزم منه القطع بنبوة كل من حصل منه مثل ذلك الدليل، وحيث جوز حصول الدليل بدون المدلول تعذر الاستدلال به على شيء كالمعجزة، فلزم حينئذ الكفر بالجميع، فثبت أن من كذب بنبوة أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لزمه الكفر بجميع الأنبياء، ومن لزمه الكفر بهم لزمه الكفر بالله وكل ما جاء به.
ولما كان التقدير : فلا جرم أنا أعتدنا - أي هيأنا - لهم عذاباً مهيناً، عطف عليه تعميماً :( وأعتدنا للكافرين ) أي جميعاً ) عذاباً مهيناً ) أي كما استهانوا بعض الرسل وهم الجديرون بالحب والكرامة، والآية شاملة لهم ولغيرهم من كان حاله كحالهم، وإيلاء ذلك بيان أحوال المنافقين أنسب شيء وأحسنه للتعريف بأنهم منافقون، من حيث أنهم يظهرون شيئاً من أمر النبي ( ﷺ ) ويبطنون غيره وإن كان ما يظهرونه على الضد مما


الصفحة التالية
Icon