صفحة رقم ٣٩٠
ولما أتم الكلام على احترام أعظم المكان وأكرم الزمان وما لابسهما، فهذب النفوس بالنهي عن حظوظها، وأمر بعد تخليتها عن كل شر بتحليتها بكل خير عدّد على سبيل الاستئناف ما وعد بتلاوته عليهم مما حرم مطلقاً إلا في حال الضرورة فقا :( حرمت ( بانياً الفعل للمفعول لأن الخطاب لمن يعلم أنه لا محرم إلا الله، وإشعاراًَ بأن هذه الأشياء لشدة قذارتها كأنها محرمة بنفسها ) عليكم الميتة ( وهي ما فقد الروح بغير ذكاة شرعية، فإن دم كل ما مات حتف أنفه يحبس في عروقه ويتعفن ويفسد، فيضر أكله البدن بهذا الضرر الظاهر، والدين بما يعلمه أهل البصائر ) والدم ) أي المسفوح، وهو المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق ) ولحم الخنزير ( خصة بعد دخوله في الميتة لاتخاذ النصارة أكله كالدين ) وما أهل ( ولما كان القصد في هذه السورة إلى حفظ محكم العهود المذكر بجلاله الباهر، قدم المفعول له فقال :( لغير الله ) أي الملك الأعلى ) به ) أي ذبح على اسم غيره نم صنم أو غيره على وجه التقرب عبادة لذلك الشيء، والإهلاك : رفع الصوت.
ولما كان من الميتات ما لا تعافه النفوس عيافتها لغيره، نص عليه فقال :( والمنخنقة ) أي بحبل ونحوه، سواء خنقها أو لا ) والموقوذة ) أي المضروبة بمثقل، منك وقذه - إذا ضربه ) والمتردية ) أي الساقطة من عال، المضطربة غالباً في سقوطها ) والنطيحة ) أي التي نطحها فماتت ) وما أكل السبع ) أي كالذئب والنسر ونحوهما.
ولما كان كل واحدة من هذه قد تدرك حية فتذكى، استثنى فقال :( إلا ما ذكيتم ) أي من ذلك كله بأن أدركتموه وفيه حياة مستقرة، بأن اشتد اضطرابه وانفجر منه الدم ؛ ولما حرم الميتات وعد في جملتها ما ذكر عليه اسم غير الله عبادة، ذكر ما ذبح على الحجارة التي كانوا ينصبونها للذبح عندها تديناً وإن لم يذكر اسم شيء عليها فقال :( ما ذبح على النصب ( وهو واحد الأنصاب، وهي حجارة كانت حول الكعبة تنصب، فيهل عليها ويذبح عندها تقرباً إليها وتعظيماً لها ) وأن تستقسموا ) أي تطلبوا على ما قسم لكم ) بالأزلام ) أي القداح التي لا ريش لها ولا نصل، واحدها بوزن قلم وعمر وكانت ثلاثة، على واحد : أمرني ربي، وعلى آخر : نهاني ربي، والآخر غفل، فإن خرج الآمر فعل، أو الناهي ترك، أو الغفل أجيلت ثانية، فهو دخول في علم الغيب وافتراء على الله بادعاء أمره ونهيه، وإن أراد المنسوب إلى الصنم فهو الكفر الصريح.


الصفحة التالية
Icon