صفحة رقم ٦٣٥
ذلك - كما ترى - دليل على ما أخبرت به الآية قبلها من أن الأمر كله لله، أي إنكم كلكم مشتركون في وضوح الأمر في أنه لا منصرف إلا إليه وقد افترقتم فصدق بعض وكذب آخرون، فلو أن الأمر موقوف على وضوح الدلالة فقط كان الكل على نهج واحد، هذا ونقل أبو حيان عن الفراء أنه قال : للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان : أحدهما أن تسأل الرجل : أرأيت زيداً، أي بعينك، فهذه مهموزة، وثانيهما أن تقول : أرأيت، وأنت تريد : أخبرني، فههنا تترك الهمزة إن شئت، وهو أكثر كلام العرب، وتومئ إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنيين ؛ ثم قال أبو حيان : وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى أخبرني نص عليه سيبويه وغيره من أئمة العرب، وهو تفسير معنى لا تفسير إعراب، لأن أخبرني يتعدى بعن، وأرأيت متعد لمفعول به صريح وإلى جملة استفهامية هي في موضع المفعول الثاني ؛ وقال في سورة يونس عليه السلام : تقدم في سورة الأنعام أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين، وأن المفعول الثاني أكثر ما يكون جملة استفهام، ينعقد منها ومما قبلها مبتدأ وخبر، يقول العرب : أرأيت زيداً ما صنع ؟ المعنى : أخبرني عن زيد ما صنع وقبل دخول أرأيت كان الكلام : زيد ما صنع - انتهى.
قلت : وحقيقة المعنى كما مر : هل رأيت زيداً ؟ فلما استفهم عن رؤيته - والمراد الخبر لا البصر - عُلم أن السؤال عن بعض أحواله، فكأنه قيل : ما له ؟ فقيل : ما صنع ؟ ولما كان استفهام الإنكار بمعنى النفي، كان كأنه قيل : لا تدعون غيره، فعطف عليه قوله :( بل إياه ) أي خاصة ) تدعون ) أي حينئذ ؛ ولما كان يتسبب عن دعائهم تارة الإجابة وأخرى غيرها قال :( فيكشف ) أي الله في الدنيا أو في الآخرة، فإنه لا يجب عليه شيء، ولا يقبح منه شيء ) ما تدعون إليه ) أي إلى كشفه ) إن شاء ) أي ذلك تفضلاً عليكم كما هي عادته معكم في وقت شدائدكم، ولكنه لا يشاء كشفه في الآخرة، لأنه لا يبدل القول لديه وإن كان له أن يفعل ما يشاء، ولو كان يجيبكم دائماً وأنتم لا تدعون غيره، لكان ذلك كافياً في الدلالة على اعتقادكم أنه لا قادر إلا هو، فكيف وهو يجيبكم في الدنيا إذا دعوتموه تارة ويجيبكم أخرى، ومع ذلك فلا يردكم عدم إجابته عن اعتقاد قدرته ودوام الإقبال عليه في مثل تلك الحال لما ركز في العقول السليمة والفطر الأولى من أنه الفاعل المختار، وعلى ذلك دل قوله عطفاً على ( تدعون ) :( وتنسون ) أي تتركون في تلك الأوقات دائماً ) ما تشركون ) أي من معبوداتكم الباطلة لعلمكم أنها لا تغني شيئاً، كما هي عادتكم دائماً في أوقات الشدائد رجوعاً إلى حال الاستقامة.
أفلا يكون لكم هذا زاجراً عن الشرك في وقت الرخاء خوفاً من إعادة الضراء